حكايا من القرايا .. من يوميات معلم
عمر عبد الرحمن نمر | فلسطين
في ذاك اليوم الخريفي الزيتوني نقلوني من مدرستي الريفية البعيدة، إلى مدرسة في المدينة قريبة من مكان سكني… حمدت الله أن منّ عليّ بالراحة، ودّعني الزملاء – ما قصّروا – نظّموا احتفالية تليق بالمناسبة… وما بين تقبيل ومصافحة ودموع غادرت مدرسة للانتقال إلى أخرى… في طريقي إلى البيت، كنت أفكر: كيف ستكون المدرسة الجديدة؟ كيف انضباطها؟ حال معلميها؟ ما مستوى طلابها العلمي؟ وما سلوكهم؟ أسئلة تتوارد إلى ذهني…
قلت في نفسي: توكل على الله يا رجل، ودع الخلق للخالق، وغداً تظهر الصورة… عصر ذاك اليوم، وبعد استيقاظي من القيلولة، زارني صديق لي، يدرس في المدرسة التي انتقلت إليها… ما شاء الله… الله ييسر الأمور، ويأتيك بالأخبار من لم تزود… بصراحة كنت ناسي صديقي أبو صبري، وأنه يدرس في تلك المدرسة… سررت بمقدم الصديق، وقلت صار لنا عزوة في المدرسة… هنأني صديقي بالنقل… وبعد السؤال عن الحال والأحوال… والقيل والقال… تنحنح صديقي وقال: مدرستنا حلوة… رائعة للمعلم القوي… القوي في علمه، وفي شخصيته… ودير بالك: الخيخة بروح بين (الإجرين)… وبدأ يحكي قصصاً وأحداثاً جرت في المدرسة، سببها الرئيس شخصية المعلم الضعيفة، وذكر لي أسماء في صفوف من المحتمل أن أدرسها… فلان مصقّع… علان دلّوع… فلنتان فوضوي… و… و… وأعرص واحد فيهم كلهم أبو البرتقان في الصف الفلاني…
في الليل حضّرت دروسي المتوقع أن أعلمها… وحضرت مقدمات لكل لقاء مع طلاب الصف… وفي الصباح الباكر – الله يصبحكم بالخير – انطلقت بكل همة ونشاط إلى المدرسة… وفي ذهني طالب واحد هو أبو البرتقان…
رحّب بي مدير المدرسة والمعلمون، وتمنّوا لي عملاً موفقاً في المدرسة… مرّت الحصة الأولى على خير… والثانية أفضل من الأولى… توجّست من الحصة الثالثة… وقلبي نكزني… الثالثة ستكون في صف أبو البرتقان… دخلت الصف مبتسماً مرحباً… عرّفت على نفسي، وبدأ كل طالب يُعرّف على نفسه… والله قبل ما يعرّف أبو البرتقان على نفسه عرفته… طالب ربما الأطول في الصف، عيناه ترسلان رسائل سمجة، يلبس نظارة شمسية سوداء… يحمل مسبحة يطقطق بها في يد، وفي اليد الأخرى قدّاحة… قلت له: لو سمحت، دع المسبحة في حقيبتك، ولا تزعجنا بطقطقتها في الصف، وخبّىء القداحة… انصاع لما أمرته به… لكن بعد دقائق كان يقدح بالقداحة ويشعلها… ثارت ثائرتي: وفي أقل من دقيقة، مرت بخاطري خطط؟ الضربة الأولى؟ القوة؟ الإنذار الثاني؟ ومن غامض علم الله، ودون أي استعداد، ودون تفكير في أحقية اختيار الزمان والمكان للرد، وجدتني وبراحة يدي المفتوحة وأصابعها الخمس المفرودة أهاجمه بكفّ عفريتي جامد… لا ع البال ولا ع الخاطر… كفّ دوّى صداه في أرجاء الغرفة… وإذ بالنظارة الشمسية تدور كالبلبل في أرضية الغرفة… وارتمت القداحة جانب السبورة… وصحت به… بُهِتَ (المصقّع) وتفاجأ وهرب من الصف… صمت الطلاب… وتابعت الحصة… ومن تلك المواجهة غادر أبو البرتقان المدرسة إلى غير رجعة…
بعد سنين، كنت أقف أمام إحدى المؤسسات لإجراء معاملة… وشاب من بعيد بلباس رسمي يبتسم لي… أخذ أوراقي، وسط اندهاشي… وأنهى المعاملة، وأعطاني إياها… تفرست في وجهه، وعرفته، وصحت: أبو البرتقان… ضحك من الأعماق… وعانقني… ودعته وأنا أقول: سبحان الله… سبحان الله العظيم…