قراءة في مجموعة ” جداريات في سماء المخيم” للكاتب عصري فياض

إسراء عبوشي

عصري فياض كاتب قادم من مخيم جنين، يحمل قلمه كما يحمل الجَرّاح مشرطه  يفتح الجراح ومن ثم يخيطها،تبرأ نوعاً ما بفضل كلماته،الجرح الإنساني هاجسه،متيم بعشق الأرض،قلمه سلاح مقاومة،وتعبير رافض لما تتعرض له الذاكرة الجمعية من محو وطمس.

“جداريات في سماء ألمخيم” المجموعة الثانية للكاتب عصري فياض،تحمي الأرض والذاكرة، ينتمي الكاتب للأرض بالدرجة الأولى،ويجند قلمه للإفصاح عن ارتباطه السَرْمَدِيّ بالقضية.

الوطن هو القاسم الأعظم لعناوين القصص،فالكاتب فياض  يحمل الوطن في قلبه كما يحمله في قصصه،هو يُعيد توجيه البوصلة بعد  أن صدأت عقاربها،ومضى على انحرافها وقت طويل،وألم مرير،ونالت منا الخسارات ما نالت،لنجد أنفسنا في مكان آخر تُهنى فيه عقود،يصيغ ذلك من خلال قصص حقيقية لبطولات تعيدنا إلى مجدنا الأسطوري العالق في جدران الذاكرة،يسجل الكاتب تاريخاً في جداريات راسخة حيث قوة اللغة وجزالتها في سرد مؤثر سلس جعل من هذه الجداريات مشاهد سينمائية مذهلة،قادرة على التسلل إلى النفس،وإحياء ما خفي فيها،الجداريات في السماء وكأن المخيم يرتقي عن مساحات الأرض ليعلو إلى السماء،ويرسم جدارياته هناك، في محيط درامي واحد.

 تدخل كلماته في صدق مخيف إلى عمق الأحداث  والحاضر. يكتب فياض حياة في الموت،نور مُظلم بشفافية متجرداً من  عاطفته،ليستثير عاطفة القارئ،ما كتبه يخصك بشدة،ستعيش حزنك معه،حتى النهاية،ستذرف دمعا وأنت تصارع عواطفك…

فمتى كتب فياض هذه القصص؟

مؤكد قبل أن تبهت عاطفة فياض،وقبل أن تخالط عواطفه الإحباط،وقبل أن يتغير الخطاب السردي التحريضي الذي يؤجج حمية الفلسطينيين.هي عذابات حقيقية ينقلها الكاتب من جدار الذاكرة،إلى جداريات ورقية،يحاكي الحياة بكل تفاصيلها القاسية،فالحياة في جداريات في سماء المخيم حياة مملوءة بالألم والمعاناة.

 في قصة ” رجولة” يحققون مع محمد بتهمة أنه رجل لا يقبل الذل،فقد رفع خنجره في وجه العدو،مقابل جندي أمامه وألف عين تصوب نحوه بنادق القنص،جدارية امتزجت برسومات الفنان التشكيلي محمد الشلبي،لتقول حقيقة مضرجة بالدماء،لعل القارئ بعد أن تمتلئ عينيه بالدموع وهو يتحسس إصابة محمد يتمنى أن يزور المخيم،ويبحث عن النخلتين بين جدرانه،…هو الأمل الذي حَذا بمحمد لتحمل الآم مثقلة قد تكون الرصاصة التي دخلت جمجمته وأفقدته بصره لأيام أهونهما،إنه عشق الوطن وحب الجهاد الهاجس الذي يُبقي الأبطال أحياء.

فمن أين أتت تلك ألحقائق؟؟…. توفى أحد أبطال القصص في الثمانينات،إذن فالكاتب أخذ الحقائق من رواية أصحابها، فكان الأصدق بتوثيقها،وأجلى عنها زيف التاريخ …

 لقد أخذنا الكاتب إلى داخل المعتقلات،وشاهدنا ما يجري من قمع وممارسات وحشية داخلها واستفزاز،إمتلك الكاتب ملكة تصوير الأحداث،وكأنك أمام لوحة سيمائية متقنة الإبداع.وأخذ يتنقل الكاتب  بين الأحداث بسلاسة ويربط الفترات الزمنية بصورة منتظمة .وأدخلنا فياض كذلك  في حارات المخيم وأزقته،معه وجدنا أنفسنا وجهاً لوجه أمام دبابات الاحتلال، وسمعنا صوت الصبية في الشوارع،شاهدنا حرب شوارع وكنا في موقع المواجهة،وقص علينا فنون قتالية برع فيها الصبية والشباب بقيادة ” زياد العامر” وأحرزنا النصر ” فقد هزمناهم”

خلد الكاتب الطرق البدائية في المقاومة بأسمائها المألوفة في ذلك الوقت ” الأكواع” و” عبوات الشعبية” وأظهر طرق كشف توغل الجنود ليلاً،وكيفية توزيع الأدوار بين المقاتلين،وأسلوب القتال بين كر وفر،النصيب الأكبر كان لمعركة اجتياح المخيم عام 2002م، في بداية نيسان، وبين استشهاد برصاص الجيش واستشهاد بداعي الفقر مسافة بريئة، لكنها بطعم آخر.

سمى فياض الأسماء بمسمياتها “قوات متوغلة… جريمة”،قلم الكاتب الضمير الحي الذي دون الحقيقة لا أكثر، وكم نحتاج لتوغل تلك الحقائق إلى عقول منّ أنكروا علينا معانينا،…هو المخيم وما دام قائماً فالحقيقة قائمة،والمطالبة بالعودة قائمة،والمقاومة قائمة،تناول ذلك الكاتب بلا مبالغة بالأحداث،كان السارد الخفي لعذابات وأحداث تحكي عن نفسها،يلجأ بالعادة الكاتب للمبالغة ليشوق القارئ ويستثئر على تفكيره،هنا وحدها الحقيقة تمسك بالقارئ من قلبه،مع إسقاطات الصور في فكره _التي برع في عرضها الكاتب_ فحقيقة جرائم الاحتلال تفوق أبشع الجرائم وتفوق الخيال، يكفي أن يكون الكاتب شاهد عليها.

وللمرأة نصيب كبير ودور بارز في المجموعة القصصية،هي جدار البيت الصلب، هي مصنع الرجال وأم الأبطال، وهي الأسيرة والمناضلة، سجل في سماء المخيم جداريات تُشعر النساء بالفخر،وتعيد توجيه البوصلة لدور المرأة الفلسطينية العظيم في شتى المجالات،هي حفيدة دلال المغربية،كل لوحة في الجداريات لا تخلوا من صورة امرأة جميلة،سواء كانت في قصة “فاطمة والحروب الثلاثة ” أو في قصة “الهام” او في قصة “رجاء”

يُعيد الكاتب للأذهان ذكرى الشهيد” أحمد استيتي” البائع المتجول الذي عرفته كافة بيوت مدينة جنين في تسعينات القرن الماضي،إستشهد في ذكرى الإسراء والمعراج،ما من بيت من بيوت جنين إلا ووقفت سيارته على بابه،عرفته النساء قبل الرجال لطيب أصله،وحزنت على استشهاده المدينة والمخيم،وحدّ الحزن عليه أرجاء ألمحافظة كل من عرفه، لمس به الشموخ والأنفة والثقة العالية بالنفس والجود،هو مثال لابن المخيم الذي يُقدر قدسية قضيته لم يغفل الكاتب التفاصيل الصغيرة في شخصيته،أعاد للذاكرة جاكيت أحمد بجيوبه المتعددة دلالة على الجود،وسرد حكايته من أولها إلى وقتنا هذا ، والد أحمد “حسن” تعيده الأيام للحياة في سمات شخصية ابن أحمد يحمل الحفيد اسم الجد،وصفات الأب ليقول إن حق الفلسطيني لا يموت،وقضيته لا تموت ما دامت هناك حياة.

لم يتطرق فياض إلى الفصائل إلا ذكراً، في رسالة مضمونها” من البديهي أن يكون الدفاع عن الوطن للوطن”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى