تقاعُد العرب المبكِّر
توفيق أبو شومر | فلسطين
لوحة للرسام الايراني سعيد بأنه زاده مواليد 1975
كتب أحدُ المستشرقين عقب جولة طويلة له في العالم العربي ملاحظة: “العرب يلبسون أغلى الساعات في العالم، ولكن، لا قيمة للوقت عندهم”
كثيرٌ من الموظفين في دوائرنا ومؤسساتنا التقليدية ما يزالون يوقعون أسمَاءهم في سجل الحضور بخط يدهم، بقلمٍ، يُشترط أن يكون من أملاك الحكومة، وفي العادة فإن الساعة المكتوبة في الدفتر ليست هي ساعة الحضور، وليست ساعة الانصراف الحقيقية، بل هي ساعة قانون الوظيفة العام. وفي كثيرٍ من القطاعات والمؤسسات والدوائر الرسمية، التي تغيبُ فيها الرِّقابة، تنتشر ظاهرة (التوكيلات)، أي التوقيع بالنيابة، كأن يوقّع شخصٌ عن رفيقه الغائب. لذا، فإن الإنتاج العملي الوظيفي يُعادلُ صفرا، فلا أحدٌ يُتابع الإنجازات العملية للموظفين، بين ساعة الحضور، وساعة الانصراف!
هناكَ مواعيدُ أخرى لا تُحترم أبدا، ليست فقط مواعيدُ دوام الموظفين الرسمية في معظم الوزارات والدوائر الحكومية، بل أيضا، مواعيد تسديد الدّيْون، فهي مواعيدُ مطَّاطةٌ، لا تحددها الساعاتُ، ولا الأيام، بل، ولا الشهور، و معظم مواعيد التطوع الوطني، بكل أشكاله وأنواعه، وبخاصة إذا كانتْ بلا حوافز مادية!!
أما أبرزُ المواعيد التي يحرص عليها الناسُ في أوطان الفراغ فهي مواعيد تقديم طلبات الوظائف، ومواعيد صرف المرتبات الشهرية، ومواعيد مراجعة الأطباء، وتناول العقاقير والأدوية! ومواعيد وأوقات الإفطار في المكاتب الحكومية، ومواعيد الأفراح والمناسبات الخاصة! من أبرز المظاهر التي تَدُلُّ على دول ذبح الأوقات، واغتيال الساعات، كثرةُ الجالسين على الطرقات، وفي الشوارع العامة، والمقاهي، هؤلاء يذبحون أوقاتَهم، ويقضون سنواتٍ في مطاردة ظلال الجدران، أو يقتلون الأوقات على طاولات لعب الأوراق، وفي بعض بلدان العرب، يضعُ مالكو المقاهي أسرَّةَ نومٍ فيها، ويقدمون فيها الأطعمة لروادها ومدمنيها!
إنَّ العربَ تقاعدوا مبكرا منذ زمنٍ طويل، لذا، لا تُحدد الأوقاتُ عندهم بالدقائق، والساعات، بل تُحدَّد بالضوء والظلال، ومواعيد الصلوات، وتلك عادة الأقوام، التي تعيش في ماضيها الغابر، ولا تفكر في مستقبل أبنائها، إنها أوطانٌ نائمة، وإن كانت تستطيع الرؤية البصرية، ولكن، تنقصها الرؤيا الاستشرافية المستقبلية!
استفادت دولٌ كثيرة من تجاربها، فقررت احترام الوقت، لأن مستقبلَ الأمم مرهونٌ باستغلال الوقت في أعمال منتجة، مثمرة.
من أبرز صفات أوطان التقاعد المبكر، أن الإنسان يقتل بقية سنواتِ عمره، حين يظنُّ أن دورَهُ في الحياة قد انتهى بعد إنجابه عددا من الأبناء، ومِن العارِ على الأبِ أن يعملَ، عندما يبلغ الستين من عمره، فعلى الأبناء أن يتولوا رعايته!
أسست دولُ المستقبل مراكزَ لاستغلال الأوقات في الأعمال المنتجة، بالاستفادة حتى مِن طاقاتِ وخبرات كبار السن، ممن يتقاعدون، ولا أحدَ في تلك الدول ينظر إلى هذه المراكز كما ننظر نحن إليها، ونعتبرها عارا نتخلص فيه من آبائنا، فتقاليدنا الاجتماعية لا تقبل أن يودعَ الأبناءُ آباءَهم في هذه المراكز المنتجة، فمن يقبل ذلك، هو ابنٌ عاقٌ، وفق التقاليد القبلية! على الرغم مِن أنَّ كثيرين من الأبناء يرتكبون أبشعَ الجرائم في حقِّ آبائهم، ممن يعيشون في كنفهم، عندما يهرمون، يعنِّفونهم، ويُقيمون عليهم دعاوى قضائية، تثبتُ أنهم فقدوا عقولهم، ليتمكنوا من اغتصاب ثرواتهم، وأملاكهم!
في الصين، واليابان مثلا، يؤدي كبارُ السن أعمالا مُنتجة، تساعدهم، وتنشطهم، فكبار السن يشتغلون حتى في تجميع الآلات وتغليفها، ومنهم من يعودون لتدريس الأبناء في الصفوف الأولى، مستفيدين من حكمتهم، حتى أن بعض من عادوا إلى العمل، أثرّوْا البرامج التربوية والتعليمية، وحبَّبوا الطلاب في مناهجهم، واستفادوا هم أيضا من العمل، فقد عاد إليهم شبابُهم من جديد. أخيرا :
لا رقيَّ لأمة، لا قيمةَ فيها للدقائق، والساعات، والأيام. ولا عِزةَ لوطنٍ، يُميتُ الفردُ فيه نفسَه بحساب سنوات عمره. ولا مجدَ لأمةٍ، عددُ مقاهيها أكثرُ من عدد المدارسِ والمصانع. ولا حياةَ لشعبٍ، لا يُعلِّمُ الأطفالَ كيف يقدسون الأوقاتَ، ويحترمونها. ما أكثرَ الساعاتِ في بيوتنا! ولكن، ما أقلَّ الأوقاتَ المنتجة!