دعاة الكوسموبوليتية وما بعد الهوية في مواجهة القومية
بقلم : عماد خالد رحمة ـ برلين
دعاة الكوسموبوليتية Cosmopolitanis أي دعاة الأرض والسياسة اللاقومية، ودعاة ما بعد الهوية هم مَن ورثوا مفاهيمهم وآرائهم وأطروحاتهم وسموها العولمة، وهم ذاتهم الذين ينتمون إلى دول آمنة ومستقرة، ولا تعاني هوياتها أي جُرح أو ضياع، أو نزيفٍ، ولأنَّهم يرون أنفسهم الأنموذج الأصح الذي يجب أن يحتذيه الآخرون في العالم بمعزلٍ عن ظروفهم وما يعانونه من أزماتٍ اقتصاديةٍ واجتماعيةٍ وسياسيةٍ وأمنيةٍ،غير متناسين ما يحملونه من عنصرية RACISIM وتعالي عرقي ومعرفي في مواجهة شعوب العالم الثالث أو الدول النامية، بخاصة بعد تنامي القوى اليمينية الشعبوية المتطرفة. والمناداة بــ (الإسلاموفوبيا Islamophobia) أي رُهاب الإسلام، وهو التحامل والكراهية والخوف من الإسلام أو من المسلمين، وبالأخص عندما يُنظَر للإسلام والمسلمين كقوّة جيوسياسية أو كمصدر )للإرهاب(. هذا المصطلح تم الإعلان عنه في العام 1997 م عندما قامت خلية تفكير بريطانية ذو اتجاه يساري التوجه تسمى (رنيميد ترست) باستخدامه لإدانة مشاعر وأحاسيس الكراهية والخوف والحكم المسبق دون تدقيق أو تمحيص الموجهة ضد الإسلام والمسلمين. و(الزينوفوبيا XENOFOBIO) ظاهرة رهاب الأجانب أو كره الأجانب، وهو التعريف للخوف FEAR من الغريب أو كراهية Hatred الغريب Foreigner.أو احتقار أو حذر من الأجانب أو الغرباء عن البلاد. والفرق بين العنصرية والإكزينوفوبيا هو أنّ العنصرية RACISIM تنحصر في احتقار وكره الآخرين بسبب نسبهم أوعرقهم، أما الإكزينوفوبيا فهي كره واحتقار الآخرين فقط لأنهم أجنبيون أوغرباءعن البلاد عما يحمل الشخص الإكزينوفوبي، مثل الاختلاف في الدين، والمعتقدات، والجنسية، والأعراف وغيرها، ويمكن أن يستخدم مصطلحي (العنصرية RACISIM ) (كراهية Hatred الغريب Foreigner) بشكل مترادف.
من هنا نرى أنهم ينظرون بشيء من التعالي العرقي العنصري والمعرفي لبقية شعوب العالم، وكأن خرافة المركزية المتأصِّلة، والدم الأزرق كتمييز عنصري يطلق على النبلاء جعلتهم من طينة أخرى بل من عالم آخر. وقد يكون التاريخ العربي في أحد أبعاده منذ صيرورته الأولى، وعبر سيرورته التاريخية الطويلة ما يمكنه من حالة الدفاع الدائم عن الكينونة والهوية والمآل والمصير المشترك، لأنَّ تخوم وطننا العربي الكبير وكل ثغر فيه كان هدفاً للقراصنة والغزاة والمعتدين الناهبين لخيرات وثروات بلداننا، لهذا فالعربي يملك نَفَسَاً قوياً استثنائياً تحدَّث عنه بإسهاب الفيلسوف الألماني )أوسفالد أرنولد غوتفريد شبينغلر (Oswald Arnold Gottfried Spengler في كتابه الهام بعنوان:(تدهور الحضارة الغربية)، الصادر بين 1918 ـ 1922م في مجلدين .
وتبعاً لنظرية المؤرخ البريطاني (أرنولد جوزف توينبي (Arnold J. Toynbeeالشهيرة حول تفسير التاريخ كان العرب أكثر من غيرهم من شعوب الأرض عرضةً لتمدد المعتدين والغزاة نحوهم ولولا قوتهم وشكيمتهم واستجاباتهم الفذة للتحديات الكبيرة بدءاً من الطبيعة القاسية جداً وتحديداً في مناطق الصحراء، حتى التاريخ الطويل عندما كانت هناك خريطة تفصيلية ذات تضاريس محفورة في الواقع وليست مرسومةً فقط لما يسمى الآن الوطن العربي من المحيط إلى الخليج، من الشام لبغدانِ ومن نجدِ إلى يمنٍ إلى مِصرَ فتطوانِ. كما وصفها الشاعر العربي الكبير فخري البارودي وما من لغةٍ في العالم أجمع كالأبجدية استهدفت لغتنا بالمحو والاستبدال والتغيير واللعب بها عبر مئات السنين، من التفريس وتدخّل الصفويين والتعجيم من أقوام الأرض، إلى التتريك على يد الثعمانيين، وليس انتهاءً بما فعله الاستعمار الكولونيالي بشقيه الفرانكفوني والأنجلوساكسوني بهذه اللغة التي أبهرت العالم، ووصل عدد مفرداتها إلى إثني عشر مليون وثلاثمائة ألف كلمة. هذه اللغة العربية العظيمة، وتلك الأرض المقدَّسة التي شهدت مهبط الرسالات السماوية، ومهد الحضارات الإنسانية، ومصدر الأبجدية الأولى في التاريخ البشري، بحيث تغرَّب بعض أبنائها عنها قسراً، وهذا ما سمّاه الشاعر والكاتب والروائي الجزائري) مالك حدّادMalekhaddad ) (1927 ـ 1978) م (غربة القلب واللسان) معاً، فقد قال يوماً انه لم يكن يستطيع الحديث مع والدته التي أنجبته بسبب منفاه اللغوي القسري. لكن من لا يرون أبعد من أنوفهم كي لا نقول أبعد من ظلالهم في هذه الأيام ينظرون إلى هذا الشجن القومي العربي على أنّه من بقايا وأطلال الرومانسية، وأنّ العالم لم يتحوّل أو يتغير فقط، بل تعولم حين أصبح بلا حدود حين اكتسحت الشركات عابرة القارات والشركات عابرة الحدود، والشركات متعدّدة ومتعدية الجنسيات والقوميات. وهؤلاء يذكرونا بما شاع في خمسينات القرن الماضي من تبشير استشراقي بالكوزموبوليتيه، وهي دعوة مضادة للقومية وأطلقت على نفسها مرحلة ما بعد الوطنية، على الرغم من أننا نحن العرب في ذلك العقد كنّا مشتبكين في حروب طاحنة كالحرب الظالمة على الشعب العربي الفلسطيني في فلسطين المحتلة عام 1948 م والتي أحدثت النكبة الفلسطينية. تلك الحرب كانت مصيرية في تاريخنا العربي. لقد حاول (الكوسموبوليتيون Cosmopolitanis) الإفلات من المعاطف الحديدية والقيود التي تكبلهم.