حكايا من القرايا.. ” ابن راعي العجّال “

عمر عبد الرحمن نمر | فلسطين

عرفهم الناس بدار راعي العجّال، يعرف الناس أنهم أتوا من بلد بعيد، منذ زمن بعيد، أعطاهم أهل القرية جزءاً من أرض مشاع، بنوا فيها خشّة من الحجر والطين، سقفوها بالعيدان والحطب… ثم بنوا خشّة ثانية جنبها، وحوّطوهما بسلسلة حجرية… وعاش فيها راعي العجّال، وزوجة راعي العجّال، وعدد من (قطاطيم اللحم) أكبرهم جاسم…

يستيقظ الزوج يومياً قبل أن تستيقظ الشمس، يشرب كاساً من الشاي الساخن، تكون قد جهزته الزوجة… يتأمل أطفاله، وكأنه يودعهم… يحمل صرّةً قماشية حوت رغيفاً مدهوناً بالزيت، وحبّات من الرصيع والبندورة، ثم يسرع إلى لمّ أبقار القرية وعجولها… يحمد الله على رزقته، يأخذ أجره شهرياً، أجراً غير موحّد، فمنهم من يعطيه القمح، وآخر الذرة، وثالث الزيت، ورابع يعطيه الحليب واللبن… كل هذا وكأن الناس في ضيق… وتداول الفلوس محرّم… هذا ناهيك عن بعض الصدقات وفطرات العيد…

الناس شافوها كثيرة، أن يسبق جاسم أبناءهم في المدرسة، جاسم الأول في صفه، جاسم وردة برية تتفتح كل يوم… كانت ليلة مأساوية، عندما سمع أمه تهمس في أذن الوالد: وطفة ساخنة… وطفة تغلي… – جسّ الوالد جبينها، وقال: اغلي لها الميرمية… وكأن في الميرمية روح الحياة… في الصباح الباكر، كانوا يبكون… ويبكون… الزوجان والأطفال، وجاسم يرسم صورة أخته في وعيه… ويرسم أملاً… ذات نهار، والوالد يركض خلف عجّاله، زحلقت بقرة على صخرة ملساء، تكسّرت رجلاها، ولم تقوَ على النهوض… ذبحها صاحبها… وهجم وعياله على دار الراعي يطلبون العوض… والراعي والسماء والطارق، يندب حظّه، يحلف ويقسم ودموعه ملء محجريه،  وكل الناس يقنعون صاحب البقرة بالقضاء والقدر والنصيب، والعوض الحرام، وهو ” متنّح” ولم يقتنع إلا بعد أن اشتروا لحم البقرة، وعوّضوا عليه بباقي الثمن. يومها حاول الراعي ترك العجال، لكنه لم يستطع، ولم يستطع أصحاب البقر أيضاً.

نجح جاسم في المترك، وتوقع معلموه أن يصبح طبيباً أو محامياً… يومها قَلَت أمه الزلابية والعوامة، وضيّفت المهنئين وسط الزغاريد… ذاك اليوم أصر جاسم أن يغادر الخشّتين ويسافر إلى الكويت… لقد استدان تكلفة جواز السفر، وأجرة السفر من الناس، لم يرضَ الوالد بنيّة جاسم على السفر، وأمه أمطرت الدموع كلها للفراق، كذلك إخوته… وأمام جاسم التحديات… فهو عماد البيت وعموده… هو البكر، هو رافع العائلة والإخوة… وغاب جاسم… في رسالته الأولى التي تحلقت حولها الأسرة كلها، وسمع بفحواها  الناس كلهم… تلك رسالة قرأتها أخته سعاد… بشّر فيها بسلامة وصوله، واستلامه لعمل، وشوقه ومحبته لأهله… وأن مبلغاً سيصلهم سريعاً… وأخبر والده بضرورة ترك أبقار البلدة وعجولها… لقد آن لك أن تستريح يا والدي… كفى… كفى… كفى…  الرزق على الله، ورضى الوالدين يسوق الرزق، والمولى قال لجاسم خذ، وبدأت المبالغ تصل أبا جاسم… وبدأت الحالة تتحسن رويداً رويداً… سددوا ديْن جاسم، ثم اشتروا قطعة من الأرض وبنوا عليها داراً واسعة… والعيال كلهم أصبحوا في الجامعات، ينعمون بالراحة، العائلة كلها تنعم بالراحة… ورزق جاسم يزداد، يفتح محلاً وراء محل، ودكاناً… وثانياً… يطلب من أبناء بلدته أن يأتوا إلى الكويت ليشغلهم… ويرسل الصدقات للفقراء والمساكين… في زيارته الأولى للبلدة أتى الرجال يسلمون على جاسم، ويهنئون أبا جاسم وأم جاسم بسلامة ابنهم، وكانت النساء تتهامس عليه… من صاحبة النصيب؟… وجاسم يفتح شباك غرفة الضيوف ويرى الخشّتين والسلسلة الحجرية، ويبتسم…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى