قراءة في قصيدة: ” همسة في أذن صديقة ” للشاعرة صفية الدغيم

ثناء حاج صالح| ألمانيا
أولا- النص
.
نوحي على موتِ ما أمَّلتِهِ نوحي
ولتكملي العمرَ جسماً دونما روحِ
.
جَرَّبتِ حَظَّكِ فلتبكي بلا صَخَبٍ
فما هنا غارقٌ ينجو بتَلويحِ
.
غريبةً كنتِ -رغمَ القربِ- عن دمهِ
كغربةِ الدَّار في تيهِ المفاتيحِ
.
من بعد يأسكِ ما كانَ الوداعُ سوى
نَصلٍ يمرُّ على شريانِ مذبوحِ
.
ما كنتِ أوَّل بحرٍ مَلَّ لجَّته
لاهٍ و خلَّاهُ في دوَّامةِ الريحِ
ثانيا – القراءة
.
عزوف الشعراء عن وضع عناوين لقصائدهم يشير إلى أمرين:
أولهما: استنفاد الطاقة النفسية على الكتابة استنفادا كاملا بعد كتابة النص ، وهذا ينطبق على الشاعرة صفية الدغيم ، وفقا لتصريحها الشخصي بذلك.
والثاني: عدم الاكتراث بوظائف العنوان من الناحية الفنية . ومن أهم هذه الوظائف بلورة فكرة النص الأساسية، وهو ما يفيد تأطير الوحدة الموضوعية التي تُعد من أبرز خصائص الشعر الحديث.
وبما أن العنوان غائب فأنا مضطرة لاقتحام النص دون الطرق على بوابته لعدم وجود هذه البوّابة .
.
نوحي على موتِ ما أمَّلتِهِ نوحي
ولتكملي العمرَ جسماً دونما روحِ
.
في البيت الأول تضعنا الشاعرة مباشرة أمام كارثة نفسية تنذر بانفصام الروح عن الجسد . إثر موت الأمل الذي كانت تعيش لأجله تلك الصديقة التي تهمس الشاعرة هذا النص في أذنها همسا . كما جاء في ذيل النص ، (وهو جزء مما يسمى بالنص الموازي والذي نستطيع منه فهم السياق العام للمعاني والصور الشعرية التي تضمنها النص. )
.
جَرَّبتِ حَظَّكِ فلتبكي بلا صَخَبٍ
فما هنا غارقٌ ينجو بتَلويحِ
.
شدّة تقمُّص حالة الصديقة عند الشاعرة وصلت بالخطاب إلى درجة التبكيت ، والتبكيت يعني في شكل من أشكاله التقريع والتوبيخ مع غلبة الحُجّة، على سبيل العقاب. فالأمر بالبكاء الصامت (بلا صخب) يأتي نتيجة طبيعية لتجربة الحظ الفاشل الذي جرّبته الصديقة . ولكن الأمر بالبكاء مع فعل الأمر (فلتبكي) يحمل إيعازا بالعقاب ، وكأن الشاعرة تقول لها : أنت تستحقين هذا البكاء لذا فعليك أن تبكي .
.
ثم تأتي الفاء التعليلية في بدء العجز (فما هنا غارقٌ ينجو بتَلويحِ) لتقدّم برهانا وحجة على استحقاق البكاء، وهو أن الغارق الذي يلوّح بيديه طلبا للنجدة لن يحصل على هذه النجدة وسوف يغرق فعلا .
والنفي – وإن بدا لوجود الغارق ظاهرا – إلا أنه يثبت وجود الغارق وينفي نجاته بالتلويح ضمنيا، وذلك بسبب الاستفاضة في وصف الغارق من قبل الشاعرة ، فإن ما لا وجود له لا يمكن وصفه . والتمكن من وصفه (مع نفي وجوده) يثبت وجوده وينفي صفته .
.
غريبةً كنتِ -رغمَ القربِ- عن دمهِ
كغربةِ الدَّار في تيهِ المفاتيحِ
.
في صدر البيت صورة شعرية معقّدة إلى حد ما ، وتشرحها وتفك غموضَها الصورة البيانية في العجز، والتي جاءت على شكل تشبيه تمثيلي ؛ فالصديقة كانت غريبة عمن تحب على الرغم من قربها من دمه ، وقربها من دمه يعني صلتها الأكيدة به . وقد تكون هذه الصلة قرابة معنوية أو حقيقية. والصديقة بشعورها بالغربة تلك هي المشبَّه. وأما المشبَّه به فهي الدار التي تشعر بغربة مماثلة.
.
وسبب شعور الدار ( البيت) بالغربة هو أن فقدان أو ضياع المفاتيح (تيه المفاتيح) يمنع أصحابها من فتح أبوابها بغية الدخول فيها لسكناها. فتشعر الدار بالغربة على الرغم من وجود أصحابها وقربهم منها . ووجه الشبه في هذه الغربة هو تعسّر أو تعذّر اللقاء لفقدان السبب المباشر الذي يؤدي للقاء ( تيه المفاتيح) .
.
من بعد يأسكِ ما كانَ الوداعُ سوى
نَصلٍ يمرُّ على شريانِ مذبوحِ
.
من هذا البيت يستبين لنا سبب الدخول في حالة اليأس التي استدعت الأمر بالبكاء؛ وهو وجود وداع سابق وحديث العهد ، ولكنه لم يكن كأي وداع عادي. بل كان كنصل السكين الذي يمرّ على شريان مذبوح أصلا ليتم قطعَ هذا الشريان قطعا نهائيا .
.
ما كنتِ أوَّل بحرٍ مَلَّ لجَّته
لاهٍ و خلَّاهُ في دوَّامةِ الريحِ
.
وتلخيص الحالة النفسية بأكملها في البيت الأخير من النص يقدِم لنا الصديقة بوصفها (بحرا ذا لجّة) عميقة يحتاج العوم فيها إلى صاحب إصرار وعزيمة تليق بصعوبة العوم فيها ، إلا أن حظّها الفاشل لم يجمعها بصاحب العزيمة هذا . وبدلا منه وجدت نفسَها أمام من يتعامل معها ليلهو ويعبث ويتسلّى لبعض الوقت ، ثم يتركها وحيدة بعد الملل من اللهو ، ويتخلّى عنها في الوقت الذي تتعرض فيه لدوّامة الريح ( العواصف النفسية ) التي ترهقها .
.
وهذا التوصيف من الشاعرة لحالة الصديقة يؤكد الفرق الشاسع بين اللاهي وبين العدة النفسية المطلوبة لمخر لجّة البحر . في تعبير عميق عن الشعور بخيبة الأمل؛ لأن اكتشاف هذه الحقيقة تحوّل إلى صدمة نفسية بدأت بها الشاعرة نصّها ، وأنهته بها.
قد تكون صورة ‏‏محيط‏ و‏طبيعة‏‏

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى