في أدب الرحلة نستلهم الرحالة المقدسي الذي تفوق علينا كثيرا قبل ألف عام!
تحسين يقين | فلسطين
Ytahseen2001@yahoo.com
سكن القدس وقرية الدوايمة وحلحول قضاء الخليل. وكم كانت الرحلة صعبة من القدس إلى الحجاز، وفارس وبلاد الدنيا! وكم كانت وما زالت في النفس أكثر صعوبة!
كونه أدبا، هذا بحد ذاته بشكل عام امر هام، لكن خصوصية أدب الرحلة من القدم لربما هو يتعلق بجانب التواصل بين البشر، وبهذا فقد نشأ شفويا، بمعنى أن الرحالة يحبون بالحديث عما رأوا خارج أماكنهم، كما أن الناس لديهم شغفا بالاستماع، لعل ذلك يكون من باب التعويض، أي ليحظوا بفرصة السفر عبر السماع.
لذلك تكمن أهمية أدب الرحلة بمختلف أشكالة الكتابية والتصويرية والفيلمية، في فتح العقول والصدور، وتقريب البشر من بعضهم، وتقديم الغرائبي والعجائبي والمختلف من العالم لشعوب أخرى.
وأدب الرحلات يكاد يكون أدبا جامعا للتاريخ والجغرافيا والثقافة والسكان، والعلوم والعمارة، وهو نص مفتوح على كل مكان بما فيه لتصويره ونقله، وهو متضمن للأزمنة. لذلك ليس هناك من قيود ولا قواعد، بمعنى أن كل من يريد يستطيع أن يساهم، وليس الكاتب فقط، بل المصور والرسام وصانع الأفلام. أي أنه يتكيف مع كل زمان، لتعبر عن خصوصيات الأماكن.
لعل من أبرز التجارب الأدبية في هذا المجال ما تعلق بغرض السفر، فهناك أدب الرحلة الذي تم لأغراض دينية، ككتابات الرحالة المبشرين، كذلك الرحالة المسلمين، وهناك ما تعلق بالصراعات، وهناك ما تعلق بالاستعمار. وقد ظهر رحالة قبل الميلاد حتى الآن. عربيا يظل ابن بطوطة الرائد الأكبر لأدب الرحلة عالميا.
بالإضافة لابن بطوطة، هناك رحالة من القدس، هو “الرحالة المقدسي الملقب بالواوي (نسبة إلى ابن آوى والذي يتصف بكثرة التنقل والترحال)، والده من المهندسين الذين شاركوا في بناء ميناء عكا في عهد أحمد بن طولون. سكن القدس وقرية الدوايمه وحلحول قضاء الخليل. أوتي المقدسي ثقافة عالية حيث تعلم القراءة والكتابة وحفظ القرآن الكريم، ثم ارتحل إلى العراق فدرس الفقه وتعلم علوم النحو واللغة وبرع في نظم الشعر. بدأ المقدسي رحلته من مدينة القدس إلى جزيرة العرب في بداية عام (356هـ/966م) بهدف الحج، ثم زار العراق وأقور والشام ومصر والمغرب وزار أقطار العجم وبدأها بإقليم المشرق ثم الديلم والرحاب والجبال وخوزستان وفارس وكرمان والسند، ويبدو أنه مكث 10 سنوات في رحلته.
كان المقدسي فعلا مدرسة في أدب الرحلة، فقد حرص من خلال رحلته على تقديم تفاصيل وافية عن العالم الإسلامي وأقاليمه وأقسامها وحدودها ووحداتها الإدارية، وقدم معلومات دقيقة عن الموازين والمكاييل والنقود المستعملة في كل إقليم، والمسافات بين مدنه وقراة استقاها من مصادر متعددة أهمها المشاهدة، والاطلاع على الحدث قبل تدوينه ومن خلال السماع عن الأشخاص الموثوق بهم، وعن الكتب الجغرافية والدينية والمكتبات.
وكما هو حال ابن خلدون مؤسس علم الاجتماع، فقد تحدث المقدسي عن العوامل التي ساعدت في نشوء المدن وازدهارها، وخصوصاً العامل الديني الذي لعب دوراً هاماً في نشوء المدن ذات الأهمية الدينية مثل: مكة المكرمة، ومنى، والمزدلفة، وعرفة، ويثرب في إقليم جزيرة العرب، وبيت المقدس، وأريحا، وبيت جبريل في إقليم الشام.
وذكر المقدسي جملة من العوامل التي أدت إلى انهيار المدن ودمارها كإهمال نظام الري في مدينة الطابران في إقليم خراسان، كما أدت العصبية والصراع الديني بين فئات المجتمع إلى تدمير مدينة نسا في إقليم المشرق، ودمرت مدينة سرخس نتيجة الصراع بين العروسية أصحاب أبي حنيفة النعمان وبين الأهلية أصحاب الشافعي . وكان لضعف السلطة السياسية واضمحلال قوتها أثر بارز في انهيار مدينة جنديسابور وسامراء وبغداد، كما أدت الفيضانات إلى خراب مدينة همذان، ودمرت الزلازل مدينة سيراف.
واهتم المقدسي بتدوين المعلومات الاقتصادية عن سكان الأقاليم التي زارها من حيث نوعية التربة واعتماد السكان على العيون والبرك والآبار والقنوات، وإقامة السدود لتوفير المياه اللازمة للزراعة، فاشتهرت عدة مدن في هذه الأقاليم بالمحاصيل الزراعية واستعرض الأقاليم التي اهتمت بتربية الحيوانات المختلفة كالإبل، والأغنام، والجواميس، والأسماك، والطيور، والنحل وتناول المدن التي تشتهر بالثروة المعدنية كالذهب. كما تحدث عن الصناعات المختلفة التي اشتهر بها سكان الأقاليم وبخاصة الصناعات اليدوية التي يحتاجون إليها بكثرة، والحياكة، وصناعة المنسوجات والمواد الغذائية، والزجاج، والمواد المعدنية. ثم ذكر الحركة التجارية السائدة، وطرق المواصلات، والبضائع المختلفة، التي يتم تصديرها من إقليم إلى آخر، كما لعبت المواد الأولية ووفرة المحصول وجودته دوراً هاماً في تحديد المستوى المعيشي لسكان الأقاليم من حيث انخفاض الأسعار وارتفاعها اعتماداً على وفرة هذه المواد أو ندرتها، وتحدث عن الأوزان والمكاييل التي تختلف في القيمة من مدينة إلى أخرى، ومن إقليم إلى آخر، وكذلك النقود المستعملة، وتنوع الضرائب كالتي تدفع على الأرض من خراجية أو عشرية، أو على السلع والبضائع المستوردة كالمنسوجات وغيرها، وعلى تجارة الرقيق. وتحدث المقدسي عن اللغات واللهجات التي تكلم بها سكان الأقاليم واختلافها من إقليم إلى آخر، ومن مدينة إلى أخرى، وتحدث كذلك عن الألبسة السائدة، واختلافها، حيث كان لكل فئة من فئات المجتمع زي خاص بها”.
تلك هي تجربة المقدسي، والتي كانت متقدمة جدا في ذلك الوقت، والذي عرّ الآخرين ببعضهم بعضا، حيثيحقق أدب الرحلات جسوراً معرفية وثقافية بين الشعوب والأمم. وحديثا لربما كانت دار السويدي حديثا، ارتياد الآفاق، وجائزة ابن بطوطة التي تشرفت بالحصول عليها، تتجه نحو هذا الهدف، حيث يعيد هذا المشروع، الذي أسسه ويرعاه الشاعر العربي محمد السويدي، العالم العربي والإسلامي للريادة من جديد.
كل البرامج التي تنطلق من السفر والرحلات وأدب المكان محببة للجماهير. ولعلنا نتذكر هنا مثلا استطلاعات مجلة العربي على مدار 62 عاما، ما أحدثته من تعريف العالم العربي على البلاد، وبالتالي خلق حلة نفسية ونسانية.
وتظل للتجربة الشخصية للكاتب دور في تقدم هذا الأدب بأبهى صورة له، كون أدب الرحلات في الغالي هو أدبا فرديا كأي أدب. وأرى أن دافع هذا الأدب يكون بالسفر بين الأماكن، خاصة المتنوعة، فالمرور على ثقافات جديدة، بما فيها من أشكال واساليب وتقاليد البشر، وصولا الى الطعام والشراب والملابس، يحفز المترحل للكتابة عما لا يراه اصلا موجودا في بلاده. حينما سافرت الى مصر، كتبت شيئا وأنا طالب، لكن بعد تخرجي، وسفري في العالم شرقا وغربا، مشاركا في نشاطات متنوعة، فقد رحت أكتب عن هذه البلاد، وأنشر حلقات مسلسلة، ثم أخذت بالتعرف على بلدي فلسطين، فرحت اتجول فيها، فكتبت برتقالة واحدة لفلسطين، الذي فاز بجائزة ابن بطوطة. الان اعد ما كتبته منصوص رحلوية عن زيارتي الى تركيا. كتبت عن كوريا والعراق وتونس والمغرب ومصر والامارات العربية والنرويج والولايات المتحدة، والان اعدها لتكون في كتب. وانصح الكتاب الشباب بالكتابة والسفر، أننا عندما نكبر تثق احمالنا، ولن يكون هناك وقت كاف للكتابة، كذلك السفر يحتاج الشباب.
وأخيرا، فإنني بعد كل أسفاري وكتاباتي عن بلاد الله، اكتشفت أنني إنما كنت أسافر في نفسي!