مسلّسلات أم بي سي بوليود وملاهاة الرعيان
منجد صالح | فلسطين
في الحكايات الشعبية الفلسطينية والذي ذهب مثلا: “مثل ملهّي الرعيان”، يدور الحديث عن طائر “لبق” مداهن مراوغ داهية يُدعى “سبد مصري” أو ملهّي الرعيان أو مسهّي الرعيان، حيث يقوم هذا الطائر “الأزعر” بفنّ وإقتدار بالتظاهر بالإعياء أو الإصابة أو بأنّه مريض أو تعبان.
وبالتالي وبناء عليه يقوم الراعي، المغبون والمخشوش، بمطاردته من مكان إلى آخر طمعا في صيده “السهل” والإمساك به.
ويبقى الطائر يُراوغ وينتقل ببطء أمام الراعي من مكان إلى آخر حتى يبتعد هذا “الأهبل” عن قطيع غنمه، الذي ربما يتعرّض للهجوم من ذئب جائع أو للسرقة من لص متربّص باتع.
تقوم قناة أم بي سي بوليود، المتخمة والمُتخصّصة بالمسلّسلات والأفلام الهندية، بدور طائر ملهّي الرعيان لدى جمهور المشاهدين في بلادنا، وخاصة السيّدات، وعلى إمتداد بلاد العرب من المحيط الى الخليج.
فالقناة “تعجّ” بالمسلسلات الهندية الغريبة العجيبة التي تتمدد كدودة “تمطّ” جسدها طولا وتتلوّى وتبدو وكانها لا تتقلّص ولا تنتهي أبدا.
وأن المرء يحتاج الى صبر ايّوب وهو يُشاهد هذه المسلسلات حتى يستطيع “متابعتها” ومتابعة الأحداث “المُتناقضة” في أحيان كثيرة والمبتورة الموتورة في أحيان أخرى، وابطالها السرمديين الذين يُبعثون احياء بعد موتهم أو يتولّى الممثل البطل ذاته تمثيل دوره الأساسي ودور إبنه ودور حفيده في المسلسل “الدودة” ذاته الذي ليس له لا قعر ولا قرار ولا نهاية، وإنما “كالشوال المخزوق!!!”.
وخلال عرض المسلسل أو المسلسلين أو الثلاثة، المتتالية والمتتابعة، دون إنقطاع إلا من الومضات الإشهارية والدعايات، ترى سيدات البيوت يتمترسن ويتمسمرن على الأرائك أمام شاشات التلفاز ويُعلنّ حالة “حظر التجوال” في البيت، وحظر الدخول إلى المطبخ ولو حتى لتحضير كاس من الشاي الساخن أو البابونج الساخن، أو اليانسون الساخن، يُعين أحد افراد الأسرة، الكبار أو الصغار، في التغلّب على برد الشتاء القارس.
وفي نفس الوقت فإنه يُحظر الكلام أو السؤال عن أي شيء، فالسيدة المعنية لا تستقبل أذنيها إلا ذبذبات وترددات المسلسل الهندي وأن أي ترددات أخرى “دخيلة أو معتدية” في الأجواء مؤجّلة إلى ما بعد إنتهاء المسلسل، وإلّا فالله وحده يعلم ماذا يمكن أن يحدث لو شاغب أحد أفراد الأسرة على البث القادم من الإستوديوهات الضخمة في مدينة مومباي، مهد ومركز وعصب صناعة السينما والمسلسلات الهندية.
فمثلا كان هناك مسلسل، ترجموه بإسم: “للعشق جنون”، مثال وشاهد ماثل على ما نورد ونقول وليس لنا مصلحة في المبالغة ولا أن نصول ونجول، ولكن هي الحقيقة المجرّدة ولم نشتريها لا من السوبرماركت ولا من المول.
هذا المسلسل الطريف الظريف العجيب الرهيب الطويل، الذي يُقاس ربما بالكيلومترات والأميال وليس بالفتر أو الشبر ولا بالباع ولا بالذراع، كان بطله يُدعى “تشيفاي سينغ أوبروي”، سليل عائلة أوبروي الغنية البرجوازية الأرستقراطية المُنعّمة، والغريب أن عيون البطل هذا كانت زرقاء أو خضراء، “هندي بعيون زرقاء”، أو ربما أنه يضع عدسات لاصقة ملوّنه، من يدري؟
السيّد تشيفاي البطل السرمدي اللامتناهي هذا، وعلى مدى عام كامل كان يحتلّ بمسلسله شاشة “أم بي سي بوليود” يوميا الساعة السابعة مساء، ويتمّ إعادته مرّتين خلال الأربع وعشرين ساعة التالية، وقد تسنّى له، ويا لحظّه الوفير “إلّي بيفلق الصخر”، أو أنّه صديق المُخرج، أن يمثّل دوره ودور إبنه ودور حفيده في المسلسل و بالتالي أن يتزوّج حبيبته زوجته، وهي نفسها تمثيلا، البنت والحفيدة، زوجة إبنه وزوجة حفيده، الذي هو هو بذاته، بشحمه ولحمه وصفاته.
“لخّه وقايمه بدها حلم ربنا حتى الواحد يفهمها”!!! وأن يفكّ ويُفكّك طلاسم المسلسل وشيفرته ومصادفاته وتقاطعاته وهفوات المخرج وشطحاته كأن ينسى أن بطلة العمل ما زالت حاملا خلال خمسين حلقة وفجأة يختفي ويضمر بطنها دون أن يُكلّف المخرج الجهبذ نفسه في إعلامنا هل ولدت وجابت صبيا حتى نفرح لها أو جابت بنتا حتى نفرح لها وندعو الله أن يرزقها بالصبي في الحمل القادم أو في المسلسل القادم!
وبعد ذلك، وبعد أن عيل صبرنا من تشيفاي ومسلسله، تمّ عرض مسلسل هندي آخر، يسمّى: “أين أنت وأين أنا”، يوميّا الساعة الثامنة ليلا، بطله د. روهيت، طبيب جرّاح يملك مستشفى خاصا وهو من عائلة غنية تقليديّة، يقع في حب سوناكشي، “ممثلة” معروفة ومشهورة وجميلة، والحق يُقال، جمالها شرقي عربي دمشقي حلبي أندلسي بالمناسبة، وكأنها حورية خرجت من مياه ماربيا في إسبانيا الأندلس.
كحيلة العينين واسعتين كعيون المها، ينطبق عليها قول الشاعر: “إن العيون التي في طرفها حور قتلننا ثمّ لم يُحيين قتلانا”، ويُعدُّ هذا البيت أغزل بيت في الشعر العربي.
أمّا شعرها الأسود الحالك الفاحم فطويل “طول مسلسلها”، ينسج منه الليل عباءة له. يتدثّر بها في ليالي الربيع الصافية، الماثلة للبرودة، ويستعين بسواده الفاحم حتى يُكمل أكمام العباءة كي تلائم الذوق التقليدي الشرقي المحتشم.
فارعة الطول والبنان وقدّها ميّاس وجسمها ممشوق، مكتنز قليلا، قليلا جدّا، متكوّر ومتحوّر أنثويا بتضاريس كاملة واضحة المعالم والبروز والنتوءات والتكويرات.
ومع كل هذا الجمال الأنثوي الطاغي الصارخ، فإن والد د. روهيت، “الغلطان الغشيم” التقليدي المتعصّب “المُتحجّر”، لم يوافق على زواج إبنه، ابن الحسب والنسب وولد العائلة المرفّهة المعروفة المرموقة، من ممثلة يعتبرها أقل قدرا وشأنا ومنزلة وحرفة ومهنة!
والحقيقة أن هذه معضلة جدّية في الهند، بلد المليار ويزيد نسمة، والموزاييك الفسيفسائي المُتلوّن المتعدد المختلف، حتى يومنا هذا ونحن نجدّف في خضمّ بحر قرن الألفية الثانية، لكن العادات والتقاليد ما زالت على حالها وصرامتها وعجائبيتها في هذا البلد الآسيوي الديمقراطي، حيث يصعب على المرء فهمها أو بلعها أو هضمها.
فبقرة واحدة في إحدى شوارع نيودلهي الرئيسية، خطر على بالها أن تجثو وتستريح وتقضي حاجتها في الهواء الطلق في وسط الشارع، كفيلة بأن تغلق هذا الشارع إلى ما شاء الله وقدّر، وإلى أن تقضي البقرة، “المقدّسة” لدى الهندوس، وترها ومأربها ونزوتها في الراحة والإستجمام في غير حظيرتها ومكانها ومحلّها ومسقط رأسها وملعب صباها.
فالمجتمع الهندي ينقسم “رسميا”، بحسب الديانة الهندوسية وطقوسها وعاداتها وتقاليدها وتجلّياتها، إلى أربع طبقات، مرتبّه عموديّا الواحدة فوق الأخرى، لا تلتقي صعودا ولا نزولا في موضوع الزواج.
والطبقات الاربعة هي: طبقة المهراجات ورجال الدين الهندوس وهي أعلى طبقة في راس هرم المجتمع الهندي الهندوسي، والطبقة الثانية هي طبقة الفرسان او المحاربين، والطبقة الثالثة هي طبقة التجار، شاهبندرات التجار والمال، أما الطبقة الرابعة فهي طبقة المنبوذين، وهي الطبقة الاوسع والأكثر عددا والأقل حظا للوصول إلى وسائل الإنتاج والثروة.
طبقة فقيرة تعدّ بملايين الملايين بالكاد يحصل بعضهم على قوت يومه.
وحيث أن الهند دولة ديمقراطية فمن المُتاح أمام أحد أفراد طبقة المنبوذين أن يصل الى درجة وزير وأن يكون أحد مكوّنات الحكومة يجلس في كرسي الحكومة بجانب وزير من طبقة أعلى، ولكن فيما يخص أمور الزواج فسيكون من الصعب وربما من المستحيل على هذا الوزير “المنبوذ” أن يتزوّج من فتاة أو سيّدة من الطبقات الثلاث الأعلى. إلا إذا كسرا هذا التقليد وهربا من وجه العائلة المحافظة المتسلّطة، حيث من الممكن أن يكون مصيرهما التنكيل وحتى القتل!
ما تطرحه المسلسلات الهندية على أم بي سي بوليود لا يمتّ للواقع الهندي المُعاش نهارا جهارا وليلا سُباتا بصلة إلا قليلا. بؤس وحرمان ومنبوذين وأربعة طبقات متباعدة.
أمّا في المسلسلات فحياة وردية و”فخفخة” والوان وصالونات فخمة فسيحة وفتيات حسان، أشكال وألوان وأحجام، بمكياجهن الناصع الكثيف ولباسهن الساري الهندي الزاهي الشفّاف الجميل.
حياة بذخ ورغد، تبزّ حكايات الف ليلة وليلة، ولكن بكثير من العثرات والتزحلقات و”الخندزات” و”الخوازيق والخوازيق” المُضادة، وأهم من كل ذلك ملاهاة الرعيان!!