إسرائيل ترفض الاتفاق النووي وتريده وتنادي بالحرب ولا تريدها
د. جمال زحالقة | فلسطين
استبق رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت، تجديد مفاوضات فيينا بين إيران والدول العظمى الأسبوع المقبل، بالتصريح بأن إسرائيل ليست طرفا في مسار فيينا، وهي «ليست ملزمة باتفاق يمكن أن يجري التوصّل إليه». ويبدو، هذه الأيام، أن إسرائيل هي الدولة الوحيدة في العالم، التي تعارض العودة إلى اتفاق 2015، الذي فرض قيودا واضحة على المشروع النووي الإيراني، وهي الوحيدة أيضا، التي تطرح جهارا البديل العسكري، أو على الأقل التلويح به للضغط على القيادة الإيرانية للقبول بوضع بلادها لرقابة دولية بمعايير إسرائيلية، لكن حقيقة الموقف الإسرائيلي مغايرة، فهي ضد الاتفاق النووي لكنّها تريده يحصل، وهي تنادي بخيار عسكري لن تقدم عليه.
قد يكون من المغري الانجرار وراء فكرة أن هناك تقسيم عمل بين الولايات المتحدة وإسرائيل، بين موقف ليّن وموقف متشدّد، يغذّي أحدهما الآخر ولهما الهدف نفسه. هذا الأمر ممكن وحتى منطقي، لكن ليس كل ممكن ومنطقي قائما في الواقع، ويبدو فعلا أن هناك خلافا أمريكيا ـ إسرائيليا، علنيا وغير علني بكل ما يتعلّق بالتعامل مع الملف النووي الإيراني.
الخلاف ليس فقط حول شكل وبنود الاتفاق الممكن، بل أيضا حول ما يجري الآن، حيث طلبت الولايات المتحدة من إسرائيل وقف العمليات التخريبية في إيران، التي يعتبرها الأمريكيون «تضر ولا تنفع» حيث تعود إيران وتبني ما تهدمه المتفجرات الإسرائيلية بمعدّات وأجهزة أكثر تطوّرا وتقدما ونجاعة، ما يزيد كل مرّة من تخصيب اليورانيوم. كما أن إيران لا تقوم بإصلاح الكاميرات وأجهزة الرقابة الأخرى التي يلحق بها الدمار. ويبدو من التسريبات والتصريحات الأمريكية، أن الولايات المتحدة تعتقد أن عمليات الاغتيال والتدمير والتشويش، ساهمت عمليا في تطوير المشروع النووي الإيراني، ولم تأت بأي فائدة وهي «قد تكون مُرضية تكتيكيا» لكنّ نتائجها عكسية على المدى البعيد.
ما يقلق الولايات المتحدة أيضا، أن إسرائيل تقوم باعتداءاتها، ويأتي الرد الإيراني على أهداف أمريكية وعلى مصالح أمريكية، ولم تطلب الولايات المتحدة فقط وقف العمليات العسكرية، بل طلبت من إسرائيل أيضا وقف هجومات السايبر، محذّرة بأنها لم تعد ناجعة كما في السابق، لأن إيران استخلصت العبر وطوّرت قدراتها الدفاعية في هذا المجال. ويشير الأمريكيون إلى أنّ إيران وصلت إلى مستوى عال في مجال السايبر الهجومي، ما مكّنها من الرد على الهجمات السايبرية الإسرائيلية باستهداف مواقع حسّاسة، ليس في إسرائيل فحسب، بل في الولايات المتحدة أيضا. كما أنّ الإدارة الأمريكية ليست راضية عن التصريحات الإسرائيلية، التي تهاجم الموقف الأمريكي، والمصحوبة بنشاط دبلوماسي محموم لحرف حلفاء أمريكا عن موقفهم الداعم لسياسات إدارة بايدن في الشأن الإيراني. لكن القيادة الإسرائيلية لم تلتزم بالالتزام بالصمت، ووعدت فقط بأن تكون لهجتها اقل حدّة من نتنياهو «طويل اللسان». وقد عبّر نفتالي بينيت عن موقفه من مسار التفاوض مع إيران، بالامتناع عن لقاء روبرت مالي المسؤول الأمريكي عن المفاوضات مع إيران، الذي زار إسرائيل الأسبوع الماضي. على الرغم من الخلافات، فإن القيادة الإسرائيلية حريصة كل الحرص على عدم الدخول في أزمة علاقات مع الولايات المتحدة، وهناك إجماع لدى النخب السياسية والأمنية في الدولة اليهودية، بأن إسرائيل اليوم بأشد الحاجة إلى تطوير الارتباط الوثيق بالولايات المتحدة، وبأنها مسألة وجودية، وليست قضية مصالح ومواقف.
ماذا تستطيع إسرائيل أن تفعل في الوضع القائم؟ وهل تستطيع عزل نفسها عن المواقف السائدة في المجتمع الدولي؟ وهل تستطيع فعلا أن تنفّذ لوحدها الخيار العسكري وتتحمل تبعاته؟ وماذا ستفعل إذا كانت هناك عودة إلى الاتفاق النووي؟ وماذا ستفعل إذا وصلت إيران إلى حد إنتاج سلاح نووي؟
تقف إسرائيل أمام ثلاثة خيارات ممكنة: الأول الخيار العسكري، الثاني استمرار الوضع القائم، الثالث التوصل إلى اتفاق نووي، لكن هذه ليست خيارات إسرائيلية، والذي يحسم فيها هو الموقف الأمريكي أولا، والدولي ثانيا، وإسرائيل هي لاعب هامشي في هذا الحسم. القول الفصل هو طبعا لإيران، التي بمواقفها وبما بنته من قوّة ومن قدرات، تقف اليوم بثبات وتطرح مطالبها بصلابة ولا تستجدي اتفاقا، ولا تقبل بما لا يروق لها، ومن الصعب جدا فرض أي شروط تراها جائرة بحقها. رغم كل الضجيج، أكاد اجزم أن إسرائيل تفضّل خيار الاتفاق النووي مع إيران، لأن الخيارات الأخرى قد تكون كارثية بالنسبة لها، فقد فشلت كل المحاولات الإسرائيلية لجر الولايات المتحدة لاتباع الخيار العسكري، وحتى ترامب رفض هذا الانجرار. وإسرائيل بالمجمل أصغر من أن تشن حربا على إيران لوحدها، وإن قررت ذلك فهي بحاجة إلى موافقة أمريكية، فبدونها تكون على «كف عفريت». ويجري الحديث عن الخيار العسكري الإسرائيلي، كخيار مستقبلي يستلزم بناء قوة عسكرية ضاربة، غير موجودة اليوم، وبحاجة إلى سنوات طويلة لتطويرها. وقد شكا نفتالي بينيت، من أن حكومة نتنياهو السابقة أصابها النوم بعد الاتفاق النووي عام 2015، وأنه وجد حين دخل مكتب رئاسة الوزراء، بونا شاسعا بين القول والفعل، حيث لم يجر تجهيز الجيش بما يلزم للحرب، ويستدل من كلامه أن نتنياهو كان يلوّح بمسدس فارغ حين كان يطلق تهديداته النارية.
يبدو الخيار العسكري خيارا ميّتا، فالولايات المتحدة ليست مستعدة للحرب ولا لدعم الحرب، وتواجه إسرائيل صعوبات غير قابلة للاجتياز، حاليا على الأقل، بكل ما يتعلق بخيارها العسكري، فالأهداف الإيرانية تقع على بعد حوالي 2000 كم وهي موزّعة في مئات المواقع ومعظمها في تحصينات تحت الأرض. وصرّح تمير فيدرو الرئيس السابق للموساد، والعضو الإسرائيلي الوحيد في منظمة «موحّدون ضد إيران نووية» بأن إسرائيل «أفضل من يقوم بعمليات محدودة» وشكك في قدرتها على شن حرب شاملة قائلا، إنه إذا لم تستطع إسرائيل محو المشروع النووي الإيراني تماما، فعليها ألا تقدم على أي مغامرة، لأن إيران سوف تستعيد عافيتها لتنتقم من إسرائيل. وقد حذّرت أوساط واسعة من النخب الإسرائيلية من الدخول في صراع دام مع الفرس، قد يطول عقودا وينهك الدولة اليهودية.
ما تسعى إليه إسرائيل هذه الأيام هو إبقاء الخيار العسكري «على الطاولة» والتلويح به والتهديد به، أملا في أن يؤدّي ذلك إلى ردع الجمهورية الإسلامية. ولإقناع إيران بأنّه خيار جدّي، تحاول المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، بعد أن رصد لها مؤخّرا المزيد من مليارات الدولارات، بناء ما يسمّى «خيار عسكري له مصداقية» عبر تحويل مركز الثقل في الجيش الإسرائيلي إلى سلاح الجو وإلى سلاح الصواريخ، المنوي إقامته، إضافة إلى تطوير القدرات الاستخباراتية.
أسوأ الخيارات بالنسبة لإسرائيل هو بقاء الوضع القائم، الذي يمكن إيران من تطوير قدراتها العسكرية الذرية، متحررة من التزاماتها في الاتفاق النووي، بعد انسحاب الولايات المتحدة منه. لقد اعترف معظم المسؤولين الإسرائيليين بأن السياسة الإسرائيلية السابقة، التي دفعت لتقويض الاتفاق النووي، فشلت فشلا ذريعا، بحكم أن إيران اليوم هي أقرب ما يكون من العتبة النووية، وستكون أكثر قربا إذا استمرت الأوضاع كما هي عليه.
موقف إسرائيل غريب، فهي ترفض الاتفاق النووي، وتعلن سلفا أنها لا تلتزم به، لكنّها تريده أن يحصل وتخشى من فشل المفاوضات. هي حقّا ترى فيه مصيبة لكنّها ترى أن المصائب الأخرى أكبر.
لَمْ أكُنْ أدْرِي…….. أنَّكُنَّ قِحابُ.