التلوث اللغوي .. الأعراض والعلاج

أ.د/ هدى مصطفى محمد| أستاذ المناهج وطرق التدريس – كلية التربية – جامعة سوهاج

 

يتحدث باللغة العربية أكثر من ثلاثمائة مليون ويرتبط بها مليار ونصف مسلم تقريباً، وهي اللغة الرسمية في ثمانية عشرة دولة عربية ويجيدها أو يلم بها أكثر من مائتي مليون مسلم من غير العرب إلى جانب لغتهم الأصلية، ويقبل على تعلمها كثيرون آخرون من أنحاء العالم لأسباب تتعلق بالدين أو التجارة أو العمل أو  أو غير ذلك .

واللغة العربية شأنها شأن أي كائن حي تمر بأوقات قوة وأوقات ضعف، وقد نشأت فتية وانتشرت كما ينتشر العبير الفواح عندما كان المتحدثون بها يعشقونها ويجدون فيها ضالتهم ويتبارون لإظهار مفاتنها وماأن انشغل عنها أهلها وأهملوها حتى انزوت وانحسرت.

ففي القرن السابع الهجري نعى العلامة ابن منظور في مقدمة كتابه (لسان العرب) ما صارت إليه حال اللغة العربية في زمانه من ضعف ووهن. فقال : “…وذلك لما رأيته قد غلب، في هذا الأوان، من اختلاف الألسنة والألوان، حتى لقد أصبح اللحن في الكلام يعد لحناً مردوداً، وصار النطق بالعربية من المعايب معدوداً،وتنافس الناس في تصانيف الترجمانات في اللغة الأعجمية, وتفاصحوا في غير اللغة العربية, وجمعت هذا الكتاب في زمن أهله بغير لغته يفخرون، وصنعته كما صنع نوح الفلك وقومه منه يسخرون “.

ثم جاء الدكتور شوقي ضيف رئيس مجمع اللغة العربية بالقاهرة في القرن الخامس عشر ليقول “الفصحى تحيا في عصرنا حياة مزدهرة إلى أبعد حدود الازدهار، وهو ازدهار أتاح لها لغة علمية حديثة، وفنوناً أدبية متنوعة، وأسلوباً مبسطاً ميسراً، مع استيلائها على ساحة الصحف ومع محاولاتها الجادة في الاستيلاء على ساحة الإذاعة.وأنا أومن بأنها ستظل تزداد ازدهاراً وانتشاراً من يوم إلى يوم حتى تحل نهائيًا في الألسنة مكان العامية، لا في ما بقي لها من الفنون الأدبية الشعبية فحسب، بل أيضا في لهجات التخاطب اليومية”

أما إذا مانظرنا إلى المستوى الذي وصلت إليه اللغة العربية في هذا العصر ، فاللغة  اليوم هي لغة تولدت عن تداخل اللغتين الفصحى والعامية فهي لغة هجينة، وقد تباينت هذه اللغات حسب العامية التي تسود في كل قطر عربي ، ومن هنا تباينت اللغات في الأقطار العربية بالرغم من أنها ترجع جميعها إلى نبع واحد وهي اللغة الفصحى .

وهذا ماجعل اللغة العربية الفصحى تضيع في البلدان العربية فدخل عليها الكثير من التغيير والتبديل الذي انحرف بها عن أصولها الصحيحة فجاء النتاج قبيحاً يعاني في كثير من أحواله مما يمكن أن نسميه ” تلوثاً لغوياً “.  ويطلق التلوث في حالة تغير الشيء عن طبيعته ، وهذا التغير يكون للأسوأ .

والتلوث نوعان مادي ومعنوي ، والمادي يعني اختلاط  مكونات المادة بشيء غريب بما يفسدها بشكل ظاهر كتلوث الثياب البيضاء بلون أحمر مثلاً فيعني تغير الشكل الخارجي للثياب بتغير اللون واختلافه عن أصله.

والمعنوي يعني تغير الشيء في جوهره الذي لايظهر ، كتحول مشاعر الحب لشخص ما إلى كره نتيجة مواقف سلبية معينة فيمكن أن نطلق جوازاً أن هذا الحب قد تلوث وتغير بما أفسد أصله فلم يعد كما كان .

وقد شاعت اللغة الهجينة حتى أصبحت لغة الإعلام المعتمدة ، وقد أثر التوسع في وسائل الإعلام وتعدد قنواته  ووسائطه ، تأثيراً عميقاً في اللغة ، وفي الحياة الاجتماعية عامة.

ويمكن القول إن هذا التوسع والانتشار لوسائل الإعلام كان له تأثيران الأول : إيجابي والآخر سلبي ، أما الإيجابي فتمثل في انتشار وشيوع اللغة العربية ، مما أدى إلى زيادة الإقبال عليها فأصبحت لغة عالمية بالمعنى الواسع للكلمة .

أما السلبي  فتمثل في شيوع الخطأ في اللغة، وتفشي اللحن على ألسنة الناطقين بها ، والتداول لبعض التراكيب والأساليب الغريبة عن الفصحى . فذيوعها جعل الكثير من المتلقين يقتدون بها وينسجون على منوالها على حساب الفصحى التي أخذت في الانعزال . فأصبحت اللغة الهجينة هي القاعدة و الفصحى هي الاستثناء .

ولا نعدو الحق إذا قلنا إن اللغة العربية تعاني في هذه المرحلة مما أسماه التويجرى (التلوث) الذي يلحق أقدح الأضرار بالبيئة اللغوية ، ويفسد الفكر، ويشيع ضروبا من الاضطراب والإرباك والقلق في العقول, علاوة على ما يسببه هذا الوضع اللغوي غير المستقر ، من فساد في الحياة العقلية للأمة, تنتقل عدواه إلى فساد في معظم المجالات، فتختلط المعاني والدلالات والمفاهيم والرموز في لغة الحوار بين الطبقات المثقفة، وبين قيادات المجتمع ، فيؤدي ذلك إلى الغموض والالتباس والتداخل في مدلولات الكلمات، مما ينتج عنه حالة من (الفوضى اللغوية) التي إن عمت وانتشرت، أفضت إلى فوضى عارمة في الحياة الفكرية والثقافية، وإلى ما هو أعظم خطرا من ذلك كله.

ويعد التواصل الرقمي من الأمور المهمة التي شغلت بال اللغويين ونالت اهتمامهم ، فلاشك أن الوسائل التكنولوجية ساعدت في انتشار مايعرف بلغة الشات أو الدردشة الإلكترونية وتعد ظاهرة الأرابيش وهي كلمة منحوتة من كلمتي ( English ) و (Arabic ) أو الفرانكو آراب وهي أبجدية غير محددة القواعد مستحدثة غير رسمية ظهرت منذ بضعة سنوات وهي تنطق مثل العربية، إلا أن الحروف المستخدمة في الكتابة هي الحروف والأرقام اللاتينية بطريقة تشبه الشفرة.

مثال : أين أنت ؟ ayna anta?وتدخل الأرقام في هذه اللغة مكان الحروف التي ليس لها مقابل في اللغة الانجليزية مثل: العين يدخل رقم 3   مثال:  معاك    m3ak

كما أن بها اختزالات واختصارات لبعض الجمل ليرمز لها بحروف لاختصار الوقت وجهد الكتابة.

وتعد هذه الظاهرة أحد أنواع التلوث اللغوي المادي ففيهاتغيير في بنية اللغة ذاتها بإدخال غريب ليس فيها ، وهذا التغيير للأسوأ .

وبالنظر إلى هذه الظاهرة ومحاولة الوصول إلى العوامل التي أسهمت في ظهورها وهو ماسبب في إضعاف اللغة العربية يمكن أن تتمثل في عدة عوامل منها :طول فترة الاستعمار ببعض الأقطار العربية ، ضعف مكانة اللغة العربية على مستوى الخطاب الشفهي والكتابي، وشيوع استخدام اللهجات العامية في أجهزة الإعلام ، العولمة والعمل على هيمنة لغة من لغات الدول المهيمنة في العلاقات الدولية والتجارية والاقتصادية والثقافية ، وهيمنة تكنولوجيات الاتصال على عملية التواصل بين الناس الذي أدى إلى استحداث لغة جديدة تسمح بالتواصل والتفاعل مع هذا الكم من المستخدمين، التخلف العام للمجتمعات العربية .الذي هانت معه اللغةعلى أصحابها الذين يعانون في الأصل من الإهمال والدونية والضعف فلم يعد للغة غلبة فكما قال ابن خلدون غلبة اللغة بغلبة أهلها.

فكل العوامل السابقة أدت إلى دفع الشباب إلى استخدام هذه اللغة الغريبة التي من خلالها يحاول الشباب أن يحقق عدة أمور منها :

  • محاكاة الغرب ، واكتشاف ذواتهم ، واعتبار ذلك كأحد أنواع التمرد السلمي وعدم الرضا عن الواقع أضف إلى ذلك مايعانيه الشباب من فوضى فكرية إلى جانب حالة التخلف الذي يعيشه المجتمع ككل .
  • ولم تقف محاكاة الغرب والاستعانة بلغاتهم عند وسائل الاتصال التكنولوجية فقط ، بل تعدت ذلك لتظهر في الكلمات المسطورة والأكثر بشاعة أنها ظهرت في روايات أدبية ، فاعتمد بعض الروائيين العرب الكتابة بلهجة هجينة فأقحموا كلمات فرنسية أو انجليزية أو أسبانية واعتبروا ذلك نوع من الرقي والتقدم الحضاري . هذا إلى خلاف ماأقحموه من ألفاظ عامية في كتاباتهم .وفي هذا الأمر كل العجب ذلك أن المثقف العربي والروائي على وجه الخصوص أكثر الناس وعياً بقضايا أمته ، وهو الذي يعبر عن هوية وطنه، فاللغة العربية الفصحى هي لغة الكتابة التي تدون بها المؤلفات والصحف والمجلات، كما أنه يدون بها القضاء والتشريع ويؤلف بها الشعر والنثر الفني ، وتستخدم في الخطابة والتدريس والمحاضرات .

إذا كانت هذه المشكلات وبعض أعراضها التي انتابت المجتمع فيمكن أن نقدم بعض المقترحات للعلاج ومواجهة هذه المشكلة ومن هذه المقترحات :

  • كسر حدة الانبهار بالغرب، ومقاومة قوة جذبه والقضاء على أسطورة الثقافة العالمية .
  • تقريب اللغة العربية الفصيحة إلى مستوى الوعي الجماهيري .
  • استخدام اللغة الفصحى بدلاً من العامية في الإعلام المرئي والمقروء.
  • الحفاظ على اللغة العربية كلغة رسمية في التفاعل داخل المنزل، والمدرسة والمسجد والإعلام .
  • توعية أولياء الأمور بدورهم في تحمل مسئولياتهم تجاه أبنائهم في تلقينهم الأبجدية الأولى وتوفير وسائل تعليم اللغة العربية بطرق سهلة ومحببة لنفوس الأطفال.
  • الاهتمام بمراجعات ومتابعات لخطباء المساجد الذين انتشروا في المساجد على مستوى الجمهورية وهم لايتورعون في شيوع أخطائهم اللغوية التي أصبحت من الأمور العادية فنجد منهم من ينصب الفاعل أو يرفع المفعول .. إلى غير ذلك من الأخطاء التي لاتعدولاتحصى في الخطب على المنابر، بما يمثل صورة من صور التلوث اللغوي المتعمد والممنهج .
  • تشديد الرقابة على الإعلام لتصبح اللغة العربية السليمة الفصيحة هي اللغة السائدة ، على أن يكون هناك من المراجعين اللغويين من يقوم بدوره في مراجعة كل مايبث ويطرح على المستوى المسموع أو المقروء.
  • عدم تدريس لغات أجنبية في الصفوف الأولى من المراحل التعليمية ، فينبغي عدم تعرض الأبناء للغة أجنبية قبل تمكنهم من اللغة الأم .
  • التركيز على الدراسات العلمية الحديثة التي تهتمبتطوير تدريس اللغة العربية الفصحى ،والاهتمام بنشر نتائج هذهالدراسات مما يجعل إمكانية الاستفادة منها عامة وشاملة لكل من يرغب في افادة.
  • اعتماد اللغة الفصحى كلغة رسمية في الاجتماعات والمؤتمرات والندوات والملتقيات بحيث لايسمح بسواها مما يؤدي إلى شيوعها .
  • إبراز فاعلية المجامع العربية وما تقدمه من دور عظيم في مجال التعريب والمسايرة لكل ماهو حديث .
  • الاهتمام بتعريب العلوم كوسيلة لنشر اللغة العربية وسد باب الدخول للغات الأجنبية ، ولا يدعي مدعٍ بأن هذا مدعاة للتخلف والتأخر. فالطب كان يدرس باللغة العربية حتى جاء الاحتلال البريطاني لمصر.
  • الاهتمام برقي اللغة العربية في الإذاعة والقنوات الفضائية بأن تتصف بالاختصار والوضوح والسلامة وحسن النطق بما يجعلها صالحة لتخاطب جدة في التسعين من عمرها أو طفلاً في العاشرة أو رجلاًكبيراً ناضجاً .
  • الارتقاء باللغة العربية عن طريق نشر الشعر الفصيح ، فالشاعر يملك سلاحاً قوياً للدفاع عن الوطن والأمة واللغة . فالشعر ديوان العرب ومنذ القدم والشعر سلاح ضد المعاندين للدين الإسلامي وحصن دفاع عن اللغة الفصحى. وأركان الدين. وكما عبر الشعراء قديماً وحديثاً عن أمجاد اللغة العربية عبروا أيضاً عن محنتها وسوء استخدامها وعدم الجدوى من مجامع العرب وعدم الفلاح لناطقي العربية ودارسيها وهاهو الشاعر الفلسطيني إبراهيم طومان وقد ضاق بطلاب العربية الذين ضيعوا اللغة الفصحى فأكثروا اللحن وليس لديهم الاستعداد لفهم العربية بعد بذل الجهد العظيم في محاولة تفهيمهم مستشهداً في دروسه بالنصوص القرآنية والأحاديث النبوية فيقول معارضاً شوقي “قم للمعلم “

لكن أصلح غلطة نحوية

مثلا واتخذ الكتاب دليلا

///

مستشهداً بالغر من آياته

أو بالحديث مفصلا تفصيلا

///

وأغوص في الشعر القديم فالتقي

ماليس ملتبسا ولا مبذولا

///

وأكاد أبعث سيبويه من البلى

وذويه من أهل القرون الأولى

///

فأرى حماراً بعد ذلك كله

رفع المضاف إليه والمفعولا

ويذكر في هذا المجال الدكتور ” محمد عبداللطيف سليمان” إنه أشد مايؤلم شعراء العربية المحدثين تلك الأخطاء الشنيعة التي يسمعونها في وسائل الاعلام ويقرءونها في الصحف صباح مساء فهي كوخز الإبر في قلوبهم .

وقد أحست اللغة بموتها ونطقت بكلمات حزينة بلسان الشاعر خليفة عبدالله حسن فقال:

ألا هيا اتركوني في بكائي

فإني قد دخلت اليوم قبري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى