أحلاَهُم

 محمد فيض خالد | مصر

لاتَزال الطّبيعة تجترّ أنفاسَ الصّباح، تتكاثف خيوط الضّباب كأشباحٍ، تتعقّد وتتلوّى فوق الحقولِ ، تحتضنُ كُلّ شيءٍ في استماتة ، وهكذا يفعل الشتاء في إجتراءٍ ، في ذروةِ الصَّمت الذي ران يخيمُ كالموتِ يحتوي البيوت ، كانَ نهر الحياة يشقّ طريقهُ بخطواتٍ مُتّئدة ، يؤدّيها في اعتيادٍ ورتابة ، هناك تراصّت فوقَ الجِسرِ الكبير أمتعة الرُّكاب الرّخيصة، أكياس الخيش ، سِلال الخُوص، حِلل النّحاس ، ندت على وَجهِ ” مختار البقال” ابتسامة باردة ، أبرد من الصَّقيِع المُتَكلّس في المكانِ ، قالَ مُتَحسِّسا طَرف جِلبابه ” البوبلين:” أحلاهُم جت “، بادرته ” زكية ” بائعة الجبن في مزاحٍ لا يخلو من إسفاف:” يكفينا ربنا شرّ تلزيق العجايز ” غَمزت بعينها في مجونٍ، ثم اطلقت ضحكة رقيعة أشبه بالعُواءِ، اهتزّ لها ثدياها المنتصبين، لاحت الحافلةُ من بينِ  أشجار السّنط في خضرةٍ مُتربةٍ ، تجعُر جعير الشيوخ ، تتهادى في إكراهٍ ، كَمن يُساقُ إلى الموتِ، على بعدِ أمتارٍ قلّلت سرعتها، لتقف في مكانها ، تنفث من بطنها دخانا كثيفا ممزوجا برائحةِ العرق، عشراتٍ حُشروا حَشّرا في جوفها، ابتلعتهم كذريعةِ السّمك، هَبطَ ” محمد الزعلان” بوجههِ القاني المكفهر، وذوائبه المُتهدلة؛ يَدكّ بحِذائهِ الميري الغليظ درجات السُّلم، يَضربُ  واجهة الباب ” بالمنافيست” ضربات مفتعلة ، يتصايح مُحتَدِما ، في جَعجَعَةٍ ألِفها الجميع في هاتهِ السّاعة المبكرة من النّهارِ ، تبدو الفوضى في كُلّ مكانٍ ، لا يفتأ يتذكّر مُتحسِّرا أياما قضاها في المنوفية، وكأنّها أيام نعيم ، لكنّها لم تدوم ، نُقلَ إثر مشاجرة حاميةِ الوطيس مع ناظرِ المحطّة ، يلعن الصّعيد وحظّه العاثر الذي أوقعه في هذا البلد، يتَغنى مُتباهيا بناسِ بحري ، حتّى حَفظ الرُّكاب حديثه الملول ، تنطلق على إثرهِ الضّحكات الغليظة كالصهيلِ بينَ الزِّحامِ ، يسوء خُلُقُه فيشرع يسبّ ويلعن في رعونةٍ من تسبّب في نفيهِ، تحمرّ وجنتاه في خفرٍ ينطلق لسانه :” العربية فاضية يا خلق ، يا بني جاموس “، يظلّ في هيجانهِ لا يتوقّف شقاؤه عند حدٍّ ، يصطنع مشاكل لأتفه سبب ، يضيقُ صدر النّاس بجهامته ، ” الزعلان ” كمساري يهابه الرُّكاب لسوء خلقه، لا يجرؤ أحد على معارضته ؛ سوى طلاب المدارس وموظفي الحكومة، وأبناء الأعيان، أمّا البقية فيرون فيه حصانة، اسبغتها عليهِ البدلة الكاكي ، يُطَالِعهُ ” محروس ” النّجار في تهيّبٍ قائلا :” صباح الخير يا بيه تصكرة واحدة ” دائما ما يُردِّد في وجَلٍ:” دا ابن الحكومة، موظف ميري “، تظل ” أحلاهم ” تَجُوبُ الجُسور، وتخترق القرى من مطلع الشمس حتى المغيبِ، تُشيّعها نظرات أصدقاء الطبيعة السُّذّج كَسفينةِ نوح التي لا نجاة بدونها ، لم تغبّ صورة ” الزعلان” عن بالي لحظة ، ولا وجهه المُغصّن ، عرفت أقدامي طريقها إلى البندر ، اخطو أولى خطواتي نحوَ الجَامعةِ ، لكن ” أحلاهم” لم تعد كما كانت ، فها هي وقد تنكبتها الأوجاع، وداهمتها أوصَاب الشّيخوخة ، ينَفرج فمها مُستَغيثا بأنينٍ مُتَقطّع ، تسير متكئة فوق قوائم واهنة مرتعشة، أتعبها طول المسير وكأنّها تستنطق آلامها ، تستجدي في كُلّ قريةٍ رحمات زبائنها أن يرأفوا لحالها ، لكنهم ويا للأسف ؛ قد ضَجَروا بعجزها ، وبأنفاسها المتقطّعة المكروبة ، تثيرهم أعطالها المتكررة ، تلهجُ ألسنتهم بالويلِ والثبور :” لماذا لا تلقوا بهذه الكُهنة البالية ، وتأتوا بأخرى جديدة “، بصوتٍ منخفض تَشوبهُ ارتعاشةٍ، وبوجهٍ ملائكي يخاطبهم ” الحاج محمد ” مفتش المصلحة :” عذرا يا حضرات، لقد تعطلنا ، استدعينا الورشة في الطريق “، اهبط مُتأففا اودّع ” أحلاهم “، في ظهيرةِ يومٍ  صَائف شديد القيظ ، ارتعشت فيهِ شَياطين اللّهب فوقَ أسفلتِ الطَّريق ، اتخذت وجهتي للمَحطّةِ ، اخبرني ” عمي مسعود ” الفراش، وفِي عينيهِ تتدفق العَبرات :” لقد صفوا الشّركةَ باعوا المحطة ، اشتراها ثري ، سيحولها أبراجا سكنية “، سِرتُ في معمعةِ الحياة وزوابعَ الشّباب ، لكنّ شيئا من أحاَديثِ الأمس لم يقع ، أُغلِقَ المبنى ، تاهت معالمه وسط عشرات الأبراج الشّّاهقة ، بَيد أن أثرا لم يزل يُزيّن الواجِهة ، لوحة المواعيد ، تَرِفُ ذكريات تُخبِركَ بأنّ رحلة لم تكتمل ” لأحلاهم”..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى