محمد أبو تريكة.. دروس وعبر (٢)
رضا راشد | الأزهر الشريف
اللاعب المصري محمد أبو تريكة
قلت: إن هناك دروسا وعبرا كثيرة نستطيع أن نستخلصها من موقف محمد أبو تريكة، أسلفت واحدا، وثاني هذه الدروس هو هشاشة الباطل وضعفه أمام الحق، بل وإحساس أهله بذلك مهما بدا في العيون قويا، ومهما امتلك من أسباب القوة..فكلماتٌ بسيطة لم تتعد دقائق معدودات قالها لاعب كرة (ليس امتهانا منه – علم الله – ولكن بيانا لكونها صدرت عن غير ذيمنشغل بالفكر والتوجيه) على قناة رياضية (ليست دينية ولا سياسية) زلزلت أقدام أهل الباطل، وأرجفت قلوبهم، فثارث ثائرتهم وقامت قيامتهم، فأرغوا وأزبدوا، وأخذوا يتصايحون تهديدا ووعيدا ..وما هذا منهم إلا إحساس بضعفهم وهشاشتهم أمام كلمات معدودات قيلت في مقام نصرة الحق .
وهذا ما أكده قول الله تعالى في سورة الإسراء (المكية):{وقل جاءالحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا} [الإسراء:٨١] فالآية كما يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله: “تهديد ووعيد لكفار قريش” [عمدة التفاسير٣٩٧/٢]
ويتملكك العجب حين تتأمل نظم الآية الكريمة فترى أن مبعث هذا التهديد مجرد مجيءالحق، ثم حين تتأمل ما يترتب على المجيء من زهوق الباطل لا مجرد ذهابه، كما يقتضي ذلك ظاهر السياق، فإن الذهاب ضد المجيء، فكأن الظاهر- في غير الذكر الحكيم – أن يقال:“وقل جاء الحق وذهب الباطل”،لكن هذا التعبير وإن حلي بالطباق لكنه لا يفي بتمام المعنى؛ لأن الذهاب قد يعقبه مجيء وعودة، وگأن مجيء الحق- لو قيل هذا – طرد الباطل من الميدان فقط، و لكنه لا يزال حيا باقيا ينتظر الفرصة للظهور والعودة إلى الميدان من جديد، وهذا ما لن يكون، بل هو الزهوق للباطل والاضمحلال والهلاك بمجرد مجيء الحق ..ثم تأمل كيف عطف {زهق الباطل} على {جاء الحق} بالواو دون الفاء -على الرغم مما تفيده من التعقيب والسرعة- ؛ بيانا لأن الباطل لا يبقى له وجود ولو لحظة في وجود الحق، بل يصحب مجيء الحق زهوق الباطل وهلاكه.
فإن أردت توضيحا لذلك فدونك النور والظلام: هل يبقى للظلام وجود بمجرد مجيء النور؟ هل تديكون للظلام أية مقاومة إلحاحا منه على بقائه واستمساكا منه بحياته ووجوده في وجود النور ؟! كلا، بل ما هو إلا الذوبان والتلاشي..وكذلكم الحق والباطل؛إذ الحق نور، والباطل ظلام {كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد} [سورة إبراهيم:١] .
فإن قلت :ومم كان الباطل ضعيفا هكذا؟ جاءتك الإجابة على لسان صاحب الظلال رحمه الله بأن الباطل “لا يحمل عناصر البقاء في ذاته، إنما يستمد قوته من عوامل خارجية وأسناد غير طبيعية، فإذا تخلخلت تلك العوامل ووهت هذه الأسناد تهاوى وانهار. فأما الخق فمن ذاته يستمد وجوده “[الظلال٤/٢٢٤٧].
ثم يزداد عجبك عندما تنظر إلى هذا التذييل المؤكَّد الوارد تعليلا للجملة قبله {إن الباطل كان زهوقا}، فلم يكتف النظم القرآني بالدلالة على زهوق الباطل (بالفعل الماضي) ترتبا على مجيء الحق، إذن لربما توهم متوهم أن ذلك قد حدث مرة، لا على سبيل التكرار، فيأتي هذا التذييل لينفي هذا الوهم وليؤكد حقيقة مقررة أن زهوق الباطل إنما كان لأنه في نفسه وجبلته وطبيعته (كما يقول البقاعي في نظر الدرر) كان زهوقا، فهو مضمحل غير ثابت في كل وقت، كما ذكر ذلك الزمخشري في الكشاف.
ومن العجيب أيضا أن هذه الآية نزلت في مكة حين الاستضعاف واضطرار المشركين للمسلمين للهجرة وترك الديار، ولهذا نزل قبلها مباشرة: {وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجنى مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا} والمقصود بالمدخل الصدق المدينة والمخرج الصدق مكة، كما قال بذلك بعض المفسرين. وكأن هذه الآية نزلت في ذلك الوقت تسلية للرسول – صلى الله عليه وسلم – وللمسلمين معه وتسرية عنهم، ثم تبشيرا بما يكون من بعد ذلك، فإن مشهد خروج المسلمين من مكة فرارا بدينهم ربما يبدو منه للوهلة الأولى قوة الباطل وضعف الحق، فنزلت هذه الآية في هذه الظروف محوا لهذه الأوهام. وكأني برسول الله صلى الله عليه وسلم فقهها جيدا (ولا غرو؛ فهو خير من تلقى الوحي عن ربه وأشرب قلبه معانيه) وسرى معنى الآية من نفسه وعقله وقلبه مسرى النفس في النفس أو جرى منه مجرى الدم من العروق، فكان يتربص بها اللحظة المناسبة الموعودة لتلاوتها..وها هي ذي اللحظة قد حانت بفتح مكة ودخول رسول الله صلى الله عليه وسلم الكعبة موطن التوحيد وقبلة المسلمين التى طالما حرم منها ومن الصلاة فيها، فساءه رؤية ستين وثلاثمائة صنم حول الكعبة، فأخذ يهدمها واحد واحدا وهو يتلو قوله تعالى: {وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا}، وهذا المعنى هو ما وقع عليه الطاهر بن عاشور – رحمه الله – في قوله: “واسْتَحْفَظَهُ اللَّهُ هَذِهِ الكَلِمَةَ الجَلِيلَةَ إلى أنْ ألْقاها يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ عَلى مَسامِعِ مَن كانُوا أعْداءَهُ فَإنَّهُ لَمّا دَخَلَ الكَعْبَةَ ووَجَدَ فِيها وحَوْلَها الأصْنامَ جَعَلَ يُشِيرُ إلَيْها بِقَضِيبٍ ويَقُولُ: ﴿جاءَ الحَقُّ وزَهَقَ الباطِلُ إنَّ الباطِلَ كانَ زَهُوقًا﴾ فَتَسْقُطُ تِلْكَ الأنْصابُ عَلى وُجُوهِها.” .
ومما يؤكد ذلك ما رواه الأمام البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: “دخل النبي – صلى الله عليه وسلم – مكة وحول البيت ستون وثلاثمائة نصب فجعل يطعنها بعود في يده ويقول: {جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا } ” ..وفي رواية أخرى: “فجعل يأتي صنما صنما، وهو ينكت بالمخصرة في عينه ويقول: {جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا} فينكب الصنم لوجهه “[والمخصرة كالسوط أو شيء يأخذه الرجل بيده ليتوكأ عليه مثل العصا ] وأيًّا ما كان الذي بيد النبي صلى الله عليه وسلم وقتئذ :عودا أو عصا أو مخصرة أو سوطا ..فهل لشيء من ذلك القدرة على أن يحطم صنما من حجر صلد فيكبه على وجهه؟ بالطبع لا ..ولكن هذا العود أو هذه العصا أو تلكم المخصرة لما كانت بيد الحق استمدت قوتها منه فكانت القوية مع ما قد يبدو من ضعفها ..و لما كانت الحجارة تمثل الباطل بكونها تجسيدا للشرك كانت ضعيفة على الرغم مما يبدو من قوتها الموهومة ..فما أبلغ النبي – صلى الله عليه وسلم – في تلاوته الآية الكريمة وهو ينكت الأصنام بعوده أو بمخصرته فتكب على وجهها متهاوية ..وما أجمله تناغما واتساقا بين القول والفعل أو بين الآية وما صحب تلاوتها..وسبحان ربي العظيم .
ولقد أثار هذا دهشة أهل مكة؛ أن يحطم الرسول – صلى الله عليه وسلم – أصنامهم بهذه الأدوات الضعيفة في الظاهر ، وكأنهم لم يلتفتوا إلى ما أراده الرسول صلى الله عليه وسلم من تلاوته هذه الآية الكريمة (التي استحفظه ربه إياها ليتلوها في هذا المقام) فقالوا – كما جاء في الكشاف- : “ما رأينا رجلا أسحر من محمد صلى الله عليه وسلم “. قلت: تالله ما هو بالسحر ، ولكن الحق هو القوي، وإن بدا في أضعف أحواله يحطم الباطل الذي هو الضعيف وإن بدا في أقوى وأصلب أحواله.
فيا أهل الحق من أهل الإسلام في كل زمان ومكان:
لا يهولنكم ما ترون أهل الباطل فيه من قوة موهومة؛ فإنها يوشك أن تتداعى سقوطا وتهاويا لمجرد مجيء الحق، كما تداعت أصنام مكة حين جعل النبي – صلى الله عليه وسلم – ينكتها بمخصرته، ولا يغرنكم تقلب الذين كفروا في البلاد ، فإنما هو متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المعاد؛ فاستمسكوا بعرى حقكم واصدعوا بكلمة الحق صريحة مدوية فإنها على أهل الكفر أقوى من حد السيف وتخلقوا بما شرع لكم ربكم من كريم الأخلاق وشريف السجايا منا ورد في الكتاب والسنة ..تفلحوا وتنصروا وتؤجروا ..ألا هل بلغت اللهم فاشهد.