يوميات كورنيش الاسكندرية.. الهروب من الماضي (١٥)
محمود عبد المقصود | نائب رئيس تحرير الأهرام
غلبنى الحنين إلى والدى فقادتنى أقدامى لأداء صلاة العشاء بالمسجد الذى كان يعشقه ويرتاده ويصطحبنى إليه مقهورا فى طفولتى المبكرة، ولا أدرى لماذا انتابنى يومها شعور مجنون بأننى سأراه هناك! وعزز شعورى هذا أنى اشتممت رائحته تلف المكان الذى لم يطرأ عليه تغيير منذ نحو 50 عاما سوى دهانات جدرانه التى يتم تجديدها كل حين من الزمن.. حتى رطوبة الجدار الملاصق للميضة مازالت تشق الدهان لتلقى بخباياه على فروشات المسجد بشكل لم تفلح معه محاولات سحبه بالمكانس الكهربائية!
جلست فى آخر المسجد لاملأ عينى من اشتياقه، ولأتحسس أركانه، وأستدعي ذكرياته، التى فاحت وتزاحمت أمامى.. فهنا شدنى من يدى لأسجد عندما تخلفت عن الساجدين فى الصلاة، وهنا نهرنى بعينيه وأنا أتتبع وأتفحص حركات شيخ ضرير، وهنا أمسك بملابسى وأنا أستعد للخروج بعد الصلاة ليجبرنى على لإنتظار معه والاستماع لدرس إمام المسجد، وهنا كان يأنس بالجلوس ليستمع لخطبة الجمعة، وفى هذا المكان أنصت معه لدرس الشيخ بأن النساء يكفرن العشير والذى ظل أبى يمازح به أمى حتى آخر أيامه عندما تختلف معه ويقول لها: اسألى ابنك الشيخ قال إيه فى النساء، فيبطل حيلتها فى النقاش عندما يخبرها أنه حديث سيد الخلق.. وبينما تتداعى أمامى المواقف والأحداث.
فوجئت بدخول موعد الصلاة والمكان امتلأ بالمصلين يصطفون لإقامتها، وتقدم للإمامة رجل كبير السن يبدو أنه من أرباب المعاشات الذين كان لهم شأن وكيان وسلطان؛ فمقومات صوته وتجويده لا تشفعان له بتلك الإمامه المهم أن صوته أفقدنى الخشوع؛ بل جعلنى أسرح كثيرا فى قيامى وسجودى حتى إننى كنت أستدعى تفاصيل لا قيمه لها لذكريات مرسومة داخل أركان نفسي.. فلما نتهت الصلاه هرول الشباب ليحتشدوا على باب المسجد للخروج بينما جلس كبار السن يختمون الصلاة ويسبحون ربهم ويرفعون أياديهم للسماء يتوسلون ربهم أن يرزقهم الستر الذى هو سقف أمانيهم.. وبينما أستعد أنا الآخر للخروج وجدتنى متلكأ يتعاظم بداخلى شعور بالبقاء والهروب فى هذا الماضى الفضيل.. وكأني أخشى حاضرا مريبا يتربص بى خارج المسجد حتى خلا المكان إلا مني، ووجدت خادم المسجد يرقبنى فهو يريد إغلاق بيت الله وفقا لتعاليم وزارة الأوقاف إلا أن حياءه منعه من مطالبتى بالخروج ولكن أيقنت شعوره وحملتنى قدماي إلى الخارج فى مشهد جنائزى شيعت فيه براءة ماضى جميل لأتواصل مكروها لحاضر لقيط لا رحم له ولا رحمة فيه، بينما يتمتم قلبى بكلمات ابن زيدون:
إن عز فى الدنيا اللقاء ففى
مواقف الحشر نلقاكم ويكفينا