أهل الكهف لا يُبعثون 

محمد عبد العظيم العجمي | كاتب مصري

إذا كانت إرادة الله اقتضت أن يبعث أهل الكهف بعد طول الرقاد، والانقطاع عن الحياة دهرا طويلا، فإنها لم تشأ أن يمتد بهم العمر أو يستمروا في الحياة.

إنما كان البعث لحكمة، ثم شاءت الحكمة أن تكون هذه نهاية الحياة لهم، وأن يكون بعثهم هذا ذكرا ورفعة لِما قدموا وأخلصوا.

وربما نستخلص من إمعان النظر في حكمة (موتهم) بعد البعث، أن تبلغنا رسالة مقتضاها أن: حتمية الزمان ماضية قاهرة على رقاب الجميع وإن كانوا من أهل المعجزات، وأن الحياة لا تدوم لحي من قبلهم ولا بعدهم حتى ولو كان أفضل الخلق وخاتم الأنبياء.

 وأن سنة الدهر اقتضت ألا يحيا الناس زمانا غير زمانهم وإن اجتهدوا ليكونوا “أحرص الناس على حياة”، أو يوقفوا سنة الزمان في أنفسهم أو من حولهم، فإن مثل ذلك كمن يحاول أن يقبض الماء بكفه أو يعقد الريح بأصابعه.

هكذا يعيش فصيل من الناس في كهف من صنع أنفسهم، كما قال الفيلسوف “فرانسيس بيكون” عما يسمى بـ “أوهام الكهف”، “إن لكل إنسان مغارة أو كهفا يعمل به على كسر أضواء الطبيعة والتغيير من لونها”، “وليس هذا الكهف إلا شخصية الفرد التي تكونها الطبيعة والبيئة والتغذية والتربية”.

هذا النوع من البشر لم تسعفه عطايا نفسه أن يجعل لها على بساط الحياة نقشا أو أثرا، ولم يستطع أن يخط في كتاب حياته ذكرا يبقى أو عطاءً يسمى؛ فراح يصنع دنيا على مثاله، وذكرا من صنع خياله، “يحب أن يحمد بما لم يفعل”.

وبما أن حتمية الزمان ليست مؤتمرة إلا لخالقها، فهؤلاء يقبعون بخيالاتهم  في هذا الكهف النفسي والعقلي، لا يستطيع أحدهم الخروج منه، أو الابتعاد قليلا حتى يرى الصورة أكثر وضوحا على حقيقتها الهشة والمتغيرة، ولو كان استطاع أن يحقق نفسه على  أرض من الصدق تحمله، لما زلت به القدم، ولما جنح به خيال الأوهام حتى أودى به إلى هذا الكهف، ولعاش بنفس راضية عما قدمت، وقلب متفق مع الحياة، وروح ناعمة ناغمة تصدح بالتسبيح مع منظومة الكون الرائعة، الطير والشجر والجبال والدواب.

فهؤلاء نساء الفن ورجاله، من يطلقون عليهم النجوم، وهم لا يعدون (الثقوب السوداء) في محياهم ومماتهم ـ إلا من رحم ربي ـ تدور بهم عجلة الزمان وعليهم رحى الأيام، فيغدون مسوخا في أثواب بشر، حين تفري أديمهم يد العمر، ويزوي بريق نجوميتهم فيحول إلى صدأ، وتزول قشرة الشباب والماكياج، ويبقى لحاء الكهولة خاليا من نضارة الطاعة، وإصباح الذكر الذي لم يألفوه، فيولون إلى هذه الكهوف يجمحون، يفتشون عن جمهورهم القديم، من يؤكد لهم أن نجومهم ما تزال تسطع، وشموسهم تضيء، ثم هم بعد أسارى لمافيا مستحضرات التجميل، ومحاربي الكهولة حتى تنزف أموالهم، كما نزفت أيامهم.. وصدق شوقي رحمه الله:

و كل تبيع  إلى العطار  سلعة  بيتها

وهل يصلح العطار ما فسد الدهر؟!!

وقد صدق (برنارد شو) حين قال: “المرأة الجميلة تشك في ذكائها، والمرأة الذكية تحتاج دوما لمن يؤكد لها جمالها، فلا تتعجب إن رأيت دميما تحبه النساء، لأنه يتقن تلك الصنعة التي يفتقدها الكثير من فن مجاملة النساء.

وقد خالطتُ واختبرتُ نماذجا من ذوي المناصب الزائلة بعد أن أجلسهم القانون على مقهى أصحاب المعاشات مبكرا وبالواسطة التحقوا بوظائف جماهيرية فوجدتهم مترعين بالقلق النفسي والاكتئاب النسبي، والرفض الاجتماعي. يظهر ذلك في عباراتهم القيادية، وأصواتهم الفجة التي يعاملون بها عوام الناس متناسين أنهم قد وُظِّفوا في هذه الأماكن لتسيير أعمال الناس وتيسيرها، لا ممارسة السلطة المفقودة؛ كهف آخر ينزوون إليه هروبا من مواجهة هذا المصير الذي حتمته عليهم المقادير.

في حين تجد لبعض من لقوا المصير نفسه وجها آخر، فاستسلموا للقدر، ورضخوا لحكمته، فراحت تفيض نفوسهم بالرضا والابتسام والتسليم، يعلو بريق التواضع وجوههم، وتظهر في أطراف ألسنتهم طلاوة المحاورة ونضارة العبارة، ويرسلون يد العون ممتدة دوما لتحمل الكل، وتعذر المضطر وتروّح عن المكظوم.

وقد علموا أن عجلة الزمان لا تدور إلى الوراء، وأن النظر إلى الخلف لن يرجع لهم شيئا مما مضى، إلا أن يبقوا في صدام مع القدر، وهم أوهن ما يكون أمام سطوته، وأذعن له حين تحين النهايات.

والبعض ممن مارسوا أعمال السياسة أو شيئا منها، فلم يكونوا على درجة الساسة المحترفين، أو لم تؤول إليهم سلطة سياسية في يوم من الأيام، وإنما قد ساروا في ركاب نجومية المتألقين، فزيفوا وأرجفوا، وطبلوا وأرعدوا وأبرقوا، وأرغوا وأزبدوا، وقد ألقى في روعهم رئييهم من الجن أنهم صانعوا النجوم، وأرباب النجاح الحقيقين.

ثم آل متبوعوهم إلى ما يؤول إليه كل حي، إما إلى الموت، وإما إلى ركن من الحياة زهيد، خامل الذكر، آفل النجم، خابئ الضوء، لكن من اكتملت نفوسهم من حظ الحياة يؤولون دوما إلى الرضا والتوافق النفسي، ولا يعدمون أن يكون لهم من هذه الزوايا وإن صغرت نصيب من التقييم والتقدير، لما جمعوا من العلم والخبرة.

ثم يصير مصير الأتباع إلى أكوام النفايات البشرية، لا يكاد يكون لهم سند يتكأون عليه، ولا ذكر يحمدون به، فتجنح نفوسهم إلى ما جنحت إليه نفوس أقرانهم السابقين، من أوهام الكهوف ليظلوا يرددوا بطولاتهم الزائفة، القابعة في عمق أوهامهم، وما كانوا في حقيقتهم إلا آخر الحرب إن أقبلت وأولها إن أدبرت، وربما لم يكونوا من أهلها في نقير ولا قطمير،

دع المكارم لا ترحل لبغيتها

واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي

وهكذا يرتقب أصحاب هذه الكهوف متربصين، ينظرون هذا البعث الذي خلد به ذكر أهل الكهف، وأن الزمان لن يخبي ذكرهم، وأن سنة الأيام لن تجري عليهم بالزوال، وقد جرت على أسلافهم الأول، العظيم والحقير، والشريف والوضيع، ولسان حالهم “ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى”.  

هذا العزوف عن التمكين الرباني، والالتفاف على عطاءات الحياة التي منت بها على الآخرين، وهذا الرفض لما أسدته يد القدر لكل من تحقق فيما هو ممكن فيه، فراحت هذه النفوس تغمط وتلمز وتهمز، فتوعدت على إثر اعتراضها بسوء المآل، وقبح المصير، كما عوقبت في حياتها أن تعيش “إن تحمل عليها تلهث أوتتركها تلهث”، فسبحان من عطاؤه عطاء، ومنعه عطاء !!

هذا.. وما سطر من كثير على مثاله مما حوت المقالات والمجلدات والكتب والشروح، قد اختصر في عبارة للصادق الذي أوتي جوامع الكلم في ست كلمات “رحم الله امرأ عرف قدر نفسه”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى