قراءة نقدية في مسرحية ” الحياة والموت ” للأديب جمال بنورة
رائد محمد الحواري | فلسطين
محاورة الأموات فكرة قديمة تناولها الأدب الإنساني منذ فجر الحضارة، فجاءت في ملحمة جلجامش تناول لأنكيو بعد الموت، وتحدث عن الريش الذي يكسو جسد الموت، وأيضا تحدثنا الأساطير القديمة عن رحالة عشتار إلى العالم السفلي، وكيف يكون حال الموتى الذين يسلبون من كل مظاهر الحياة الأرضية، فينتزع منها لباسها وتاجها حتى تمسي عارية أمام أختها أريشكيجال.
هذا ما جاء في الأدب الهلالي تحديدا، أما في الأدب اليوناني فهناك “مسامرات الأموات لكاتبه لوقيانوس السميساطي، الذي تحدث فيه عن شخصيات متناظر مثل: “هاني بعل/الاسكندر”.
إذن هذا النوع من الأدب قديم قدم الحضارة الإنسانية، لكن مع ظهور الأديان السماوية تم ترك هذا التناول للأموات، ويمكن أن نقول بأنه أغلق/أهمل الأدب الذي يتحدث/يحاور الأموات.
لكن ها هو “جمال بنورة” يطرق باب الأحوار مع الأموات في مسرحية “الحياة والموت” من جديد، مستخدما مقدمة (منطقية) حيث يتحاور ملاك الموت مع الراوي قبل قبض روحه، فيقرر الملاك إعطائه ما يقارب 24 ساعة قبل قبض روحه، وبما أن الراوي لم يأخذ كفايته من الحياة فقد أقنع “الملاك بمنحه هذه المدة، وأثناء حوارهما يتناول الملاك فكرة الموت بهذه الطريقة:
“ـ .. ربما يأتي وقت تطلب فيه الموت، فلا تجده، ولا أستطيع إنقاذك من الحياة…غيرك طلب ذلك.. ولكنني لم أتمكن من إنقاذه…لقد ظل يتعذب حتى النهاية.
وهنا يتم زيارة الأموات في قبورهم، حيث يأمر حفار القبور بالحفر على الأموات، … ثم لأن الموت ليس شيئا مخيفا…ستعرف ذلك عندما تجربه” ص12و14، وهذا ما وجده الراوي أثناء حواره مع الموتى، فكلهم تحدثوا وكأنهم لم يموتوا، لم يشعروا بألم/بعذاب الموت، فبدوا وكأنهم يستيقظون من النوم، وليس من الموت.
كما تناول الحوار بين الراوي والملاك ما يفعله أهل الموت بعد موته، وكيف أن الميت لا (يهتم/يتأثر سلبا أو إيجابا) بما يجري بعد موته:
“الملاك: … ثم أن ذلك سيؤثر في الناس، ويستثير حزنهم.. فيبكون عليك بحرقة.
الراوي: ولكن ماذا يفيدني بكاؤهم؟ حتى لو رقصوا في جنازتي.. فإنني لن أشعر بذلك” ص20، تكمن أهمية هذا الطرح في أنه يشير بطريقة غير مباشرة إلى ضرورة تمتع الإنسان في حياته، لأنه بعد الموت سينتهي ولن يشعر بأي شيء، إن بكاه الناس جميعا أو أهملوه، بالنسبة له سواء.
أول لقاء كان مع امرأة عاملوها زوجها بقسوة فكان اللقاء بهذا الشكل:
“الراوي: .. إنسان سيموت بعد ساعات ويريد أن يتحدث معك قبل موته..
المرأة: هنيئا لك!
الراوي: على ماذا؟
المرأة على أنك ستموت!
…الراوي: أريد أن تقولي لي ما هو الموت؟
المرأة: الموت هو الراحة.
الراوي هل تحسّين براحة فعلا؟
المرأة: في الواقع لا أحسّ بشيء… ولكن عدم الإحساس بشيء، هو الراحة بعينها.” ص23، وهنا تؤكد المرأة على أن الموت يتماثل مع النوم، وكما أن النوم يعد راحة/استراح للنائم، فهو أيضا استراحة للميت، خاصة ذلك الميت/النائم التي تكون حياته شقاء وعذابا.
أما عن لحظات الموت وكيف يكون أثرها على الإنسان فتقول: “كانت الحياة تتسرب من جسدي .. بدأت أحسّ بارتياح/ لأن عذابي سيتوقف بعد أن أودع الحياة.. حتى جاءت اللحظة التي لم أعد أحسن فيها بشيء.. كانت تلك اللحظة الأخيرة الفاصلة بين الحياة والموت.. ولكنني لم أحسها جيدا.. لا أتذكرها تماما” ص25، كلام المرأة عن الموت يتوافق مع كلام الملاك، الذي قال بأنه أمر غير مخيف، وأنه أمر/شيء عادي/طبيعي، وهذا ما يخفف من روع المتلقي، ويجعله يتعامل مع الموت على أنه مرحلة (طبيعية/عادية) لا تستوجب الخوف أو الجزع. اللقاء الثاني يكون بين الزوج والمرأة والراوي، الزوج يحاول أن يعتذر للمرأة عما بدر منه من أذى وقسوة، لكنها ترد عليه بطريقة حاسمة: “اغرب عن وجهي.. ماذا يفيدني حبك الآن؟ لماذا لم تظهر لي حبك ونحن أحياء، الآن جئت تتباهى بحبك، بعد أن لم يعد ينفعني في شيء، لماذا لم تفطن لذلك عندما كنت حيّا؟” ص29، اللافت في هذا الرد أنه جاء منسجما مع قول الراوي حول ما يحدث بعد وفاته، فالناس إن بكوا أو رقصوا، بالنسبة له سواء، لأنه لا يشعر بشيء، فالشعور/المشاعر متعلقة بالأحياء وليس بالأموات، وهذه دعوة ـ غير مباشرة ـ إلى ضرورة أن يصلح الناس سلوكهم وهم أحياء، لأن بعد الموت ـ موتهم هم أو موت من تأذوا ـ لا يفيدهم الندم، ولا اعترافهم بذنبهم.
اللقاء الثالث كان مع الجندي، الذي يصف لحظة موته بهذا الشكل: ” أذكر أن قذيفة مدفع انفجرت بالقرب مني.. شعرت أنني أطير عن الأرض.. ولم أعد أذكر شيئا بعد ذلك، سوى أنني أرتفع نحو السماء، وأنا أسبح في نور بهي، فلماذا أعدتموني إلى هنا؟” ص31، الجندي هنا يؤكد على (عادية) الموت، وعلى أنه فعل سهل ولا يشعر به الإنسان.
أما عن حاجات الجندي، وما يريده من الحياة: “..فأنا لي أهل هناك، أموت شوقا لرؤيتهم” 33، وهذا حال من يموت دون أن يأخذ كفايته من الحياة، ومن لم يشبع منها بعد.
اللقاء الرابع كان مع الشيخ الذي شبع واكتفى من الحياة، يحدثنا عن لحظة مغادرته للحياة: “…أذكر أنني رحت في نوم عميق، مريح وقد زال عني الشعور بالتعب والإعياء الذي كنت أحسه قبل ذلك.. ولم تعد بي حاجة إلى طعام أو شراب أو أي شيء من مباهج الحياة، كنت قد فقدت قدرتي على الحركة والنطق، بدأت الحياة تنطفئ في جسمي تدريجيا، ولم أعد أرغب في شيء سوى النوم واستغرقت شيئا فشيئا في سبات عمق.. لم أفق منه حتى جئتني أنت” ص38و39، نلاحظ أن الكاتب يوزع الأدوار بين الأموات، فيقدم شخصية ملت من الحياة، وأخرى ما زالت ترغب فيها، لكن الكل وجد في الموت راحة.
اللقاء الخامس كان مع فتاة تموت منتحرة، بعد أن رفض أهلها تزويجها من الشاب الذي يريده، تحدثنا عن لحظة مغادرتها الحياة بقولها: ” أذكر أنهم حملوني إلى المستشفى، وأنا أشهق بصوت متحشرج، وأصرخ لا أريد الموت، ثم وضعوا أنبوبا في فمي وأدخلوه إلى معدتي، فهمت أنهم يحاولون القيام بعملية غسيل للمعدة، والأطباء يبذلون جهدهم لإنقاذي، وأنا أحاول الصراخ والأنبوب يعترض فمي، “خلصوني من هذا العذاب” وسمعت أحد الأطباء يقول “تأخرتم في المجيء” وخلصت أخيرا عندما خمدت حركتي، ولم أعد أحس بشيء” ص48، المسرحية تركز على الشباب الذين لم يأخذوا حصتهم من الحياة، فنجدهم ما زالوا متشبثين بها، بصرف النظر عن طبيعية/أسباب رحيلهم، فهم ما زالوا يريدون الحياة، على النقيض ممن تعرض للأذى أو ممن طال عمره في الحياة وأخذ كفايته منها.
أهمية فكرة المسرحية تكمن في أنها تطرح ضرورة تأمين أسباب الحياة السوية للشباب والشابات وتلبية احتياجاتهم، ومنحهم الحرية التي يريدونها ليشكلوا حياتهم بأيديهم، ليكون حالهم كحال “الشيخ” الذي كان يطلب الموت بعد أن أخذ حاجته واكتفى من الحياة، ولم يعد هناك من أو ما يتحسر عليه، هذا أهم ما تطرحه المسرحية.
اللقاء السادس كان مع أحد الشهداء الشباب، يحاوره الراوي:
“الراوي: هل كنت مستعدا للتضحية ثانية بحياتك؟
الشاب: الحياة عزيزة.. أنا لا أريد الموت.. ولكن علي أن أقوم بواجبي ..هذا ما تعلمته.
الراوي: ألست نادما على شيء؟
الشاب: لا أعرف الندم.. أنا لم أفعل شيئا أندم عليه (مستدركا) بلى.. إنني نادم على شيء واحد .. لقد سببت الحزن لأمي.
…الراوي: … قل لي ما هي أمنيتك الآن؟
الشاب: أن أعود إلى البيت بدون تأخير.. أن أرى أمي وأقبلها وكذلك أخوتي وأبي” ص51و52، نلاحظ نبل الشهداء حتى بعد موتهم، فهم يمتلكون مشاعر إنسانية، ويؤكدون على عطائهم حتى بعد رحيلهم، وتكمن أهمية هذا الحوار في أن الشهيد الشباب يرد ويفند ادعاء الاحتلال الذي يقول بأن الفلسطينيين يحبون الموت ويرغبونه.
بهذا يكون “جمال بنورة” قد كشف لنا (عادية/سهولة/سلاسة) الموت، ونوه إلى ضرورة أن يشبع الإنسان من الحياة، ليغادرها وهو مكتف منها، مشيرا إلى أن الألفة في الحياة ضرورية للناس، لكي ينعموا بحياتهم، وحتى لا يغادروها مكرهين/مجبرين.
وأخير تبقى فكرة الحوار مع الأموات فكرة (مجنونة)، وعندما تناولتها مسرحية “الحياة والموت” كانت تتجاوز الطرح السائد، وطرق بابا لم يعد من يطرقه، فكانت مسرحية متميزة ليس على صعيد الفكرة فحسب، بل على الأفكار التي حملتها عن الموت وطبيعية ولحظة الانتقال من حالة الحياة إلى حالة الموت.
المسرحية من منشورات اتحاد الكتاب الفلسطينيين، القدس، رام الله، فلسطين، طبعت عام 2005.