سرّ الجمال في اللغة العربيّة وأوجهه
محمد موسى العويسات | فلسطين
Emerico Tóth Hungarian painter born in 1970
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله ربّ العالمين، القائل في كتابه العزيز: ” ومن آياته خلقُ السّموات والأرض واختلافُ ألسنتِكم وألوانِكم إنّ في ذلك لآيات للعالِمِين” (الروم: 22)، فجعل اختلاف ألسنة الناس من الآيات الدّالات على أنّه الخالق القادر المبدع، فقرنها بخلق السّموات والأرض وقدّمها على اختلاف الألوان، وخصّ بالتفكّر فيها واستجلائها العلماء. وفي عموم اللغة قال تعالى: ” الرحمن* علم القرآن خلق الإنسان علّمه البيان” (الرحمن 1ـــ 4)، وفي اللغة العربيّة قال تعالى واصفا لغة العرب، في حالاتها الإعرابيّة الثلاثة الأصليّة: ” وهذا لسانٌ عربيّ مبين” (النحل:103) ، ” بلسانٍ عربيّ مبين” (الشعراء:195)، ” وهذا كتاب مصدّقٌ لسانًا عربيّا” (الأحقاف: 12) وقوله عربيّ ليس وصفا يَنسِب فيه اللغة لقوم هم العرب، وإنّما هو وصف للسان بأنّه عربيّ، أي تامّ كامل غير ناقص، مفصح. وهذه من الشّواهد القرآنيّة على تمام هذا اللّسان وعلوّ شأنه. أمّا رسولنا الكريم عليه الصلاة والسّلام، أفصح من نطق بالعربيّة، وقد أوتي جوامع الكلم، فقد وصف اللغة العربيّة لمّا سمع بعض الشّعر فقال: ” إنّ من البيان لسحرا”، وما البيان الذي قصده الرّسول، صلى الله عليه وسلّم، إلا فنّ من فنون هذه اللّغة سواء أكان شعرا أم نثرا، ولا يكون سحرا يخلب القلوب والألباب إلا بفضل لغته. وإن كانت اللغة وفنونها همّ العرب قبل الإسلام، فإنّهم بالإسلام قد ازدادوا اهتماما بها وبفنونها، وأقبلوا عليها إقبالا لم تشهده لغة من قومها أو قوم في لغتهم، لا من قبل ولا من بعدُ، وكان السّرّ في ذلك القرآن، إذ لا تدرك معجزته إلا بمعرفة لغة العرب وأساليبهم في الكلام، ولا يفسّر ولا تستنبط أحكامه إلا بمعرفة اللغة، فنشأت عليه علوم شتّى بجهد العرب وغير العرب من الأعراق الأخرى ممّن دخلوا الإسلام فكانت العربيّة لغتهم، وأعظم الشّواهد على ذلك (الكتاب) كتاب سيبويهِ في النّحو، الذي عدّه العلماء قرآن النّحو، فلم يكن له نظير لا فيمن سبقوا ولا فيمن لحقوا. وقد تعدّدت علوم العربيّة كما تعدّدت فنونها، ففي مستوى حروف المباني كان علم الأصوات، وفي مستوى الكلمة وبنائها كان علم الصرف، وعلم الدلالة، فجمعت اللغة وأنشئت المعاجم العظام، وفي مستوى الجملة ووظيفة الكلمة فيها كان علم النحو، وكان علم البلاغة أعظم علم في أساليب التّعبير الجميلة ومنه انبثق علم البيان وعلم البديع، وفي المستوى الشعريّ الغنائيّ الموسيقيّ كان علم العروض، وكان علم النّقد يحيط بتلك العلوم، وبهذه العلوم جمعت اللغة بين ثلاثة أمور: أن تكون أداة تعبير عن الحاجة كما عرّف ابن جنّي اللغة بشكل عام: (أصوات يعبّر بها كلّ قوم عن حاجاتهم). ثمّ تكون علمًا تتعدّد فروعه وأفنانه فيُدرس لذاته، ويُخَصّ كلّ فرع بعلماءَ ومؤلّفات لا تحصى، أمّا ثالث الأثافيّ فلغة الجمال والتذوّق والإبداع، فكان أوّل ما كان الخطبة والشّعر والمثل والحكمة والوصيّة والرسالة بشقّيها، والمقامة والمنامة والقصّة والرّواية والمسرحيّة وشعر التفعيلة، والقصيدة النثريّة والتّوقيع الذي نسمّيه اليوم الومضة وغيرها من مقالة وخاطرة، وأعظم ذلك النثر التأليفيّ في كل علم عرفته البشرية إنشاء أو ترجمة، وما زالت اللّغة فيضا من الجمال يتّسع لكلّ فنّ قوليّ أصيل أو مجلوب، مجلوب بحكم التّلاقح الثقافيّ والأدبيّ بين الأمم. والحديث عن الجمال جمال العربيّة، هو حديث عن تلك المستويات العلميّة التي تناولتها، وحديث عن تلك الفنون التي وسعتها اللّغة، وحديثٌ عن جمال الذّوق والرّوح والخيال فيمن وهب ملكة في فنّ من فنونها، وحديثٌ عن قارئ أو سامع أو باحث متذّوق تذوّقا خاليا تشويه أو شهوة، فهذه أطراف أربعة نستقرؤها في غير تعصّب للغتنا، وإن تعصّبنا لها فعصبيّة بحقّ وفي حقّ، يقول ابن تيميّة في لغة العرب بل في اللغات عامّة: ” فإنّ اللسان العربيّ شعار الإسلام وأهله، واللّغات من أعظم شعائر الأمم التي بها يتميّزون” (من كتاب اقتضاء الصّراط المستقيم:203)، وقد شهد لها أعلام الباحثين ممّن استشرقوا فوقفوا على لغة العرب بحثا وتذوّقا بكلّ موضوعيّة وعلميّة، تقول المستشرقة الألمانيّة زيفر هونكة: ” كيف يستطيع الإنسان أن يقاوم جمال هذه اللغة ومنطقها السّليم وسحرها الفريد؟ فجيران العرب أنفسهم في البلدان التي فتحوها سقطوا صرعى سحرِ تلك اللغة، فلقد اندفع النّاس الذين بقوا على دينهم في هذا التّيار يتكلّمون اللّغة العربيّة بشغف، حتى إنّ اللّغة القبطيّة مثلا ماتت تماما، بل إنّ اللغة الآراميّة لغة المسيح قد تخلّت إلى الأبد عن مركزها لتحتلّ مكانها لغة محمّد” ( مجلّة اللسان العربيّ:24 /86، عن كتاب شمس العرب تسطع على الغرب). لا شكّ أنّ المستشرقة هونكة كانت على إطلاع واسع على هذه اللغة وعلومها وفنونها وتاريخها، ولم تكن باحثة فقط بل متذوقة أيضا. لا بدّ أنّها وقفت على (قفا نبك) وأخواتها، ومرّت بقول امرئ القيس:
وليل كموج البحر أرخى سدوله
عليّ بأنواع الهموم ليبتلي
فقلت له لمّا تمطّى بصلبه
وأردف أعجازا وناء بكلكل
ألا أيّها الليل الطويل ألا انجل
بصبح وما الإصباح منك بأمثل
وعلى قول عنترة:
هل غادر الشّعراء من متردّم
أم هل عرفت الدّار بعد توهّم
وقوله في وصف الذّباب:
هزجا يحكّ ذراعه بذراعه
قدح المكبّ على الزّناد الأجذم
لا بدّ أنّها تذوّقت قول النابغة في النعمان:
فإنّك كاللّيل الذي هو مدركي
وإن خلتُ أنّ المنتأى عنك واسعُ
ولا شكّ أنّها وقفت على قوله تعالى على لسان زكريا عليه السلام: ” قال ربّ إنّي وهن العظم منّي واشتعل الرأسُ شيبا”، (مريم: 4) أو قوله تعالى: ” وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين” (هود: 44)، وقوله تعالى: ” والصّبح إذا تنفّس”.
وربّما بلغها قول الرّسول: ” ملكت فاسجح” أو قوله: ” طفّ الصّاع بالصّاع”، أو قوله: ” الآن حمي الوطيس”.
وربّما اطلعت على المادّة اللغوية (ض، ر، ب) ووقفت على ما اشتقّ منها واختلاف معانيها. وربّما اطلعت على صرف اللّغة وعرفت كيف اشتقت كلمة (ميناء) من الفعل ونى، وربّما عرفت لماذا أو كيف وقع إعلال النقل في كلمة (جاه)، أو لماذا أبدلت التاء طاء في صيغة افتعل من كلمة صاد، وربّما وقفت على صيغ اسم المفعول في اللغة: مفعول وفعيل وفِعْل، وفُعلة، وفعول، وفاعل. ورّبما أدركت الفرق بين: درس الطالب النحو، ودرس النّحو الطالب، والنّحو درس الطالب، والطالب درس النّحو، وربّما أدركت الفرق في المعنى بين اعتبار كلمة (خوفا) حالا أو مفعولا لأجله أو مفعولا مطلقا في قوله تعالى: ” يريكم البرق خوفا وطمعا”، وربّما أدركت القيمة الصوتيّة في كلمة (اثّاقلتم) في قوله تعالى: ” ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثّاقلتم إلى الأرض”، وربّما عرفت القيمة الصّوتية للسّين في سورة النّاس. وربّما اطلعت على الإملاء وكشفت السرّ في كتابة الفعل يحيا بالألف ممدودة، وحذف الألف من هؤلاء، وكتابة همزة (موءودة) منفردة وليست على واو، وربّما مرّت بدوائر الخليل العروضيّة وأدركت الأسرار الصّوتية في التّفعيلات وزحافاتها. وربّما رأت العلاقة بين النّظريّات الفيزيائيّة واللغة العربيّة، وربّما أدركت التوسّع في اللغة بالاشتقاق الأصغر والكبير والأكبر والكبّار، والتّرادف، والتّضمين، والاستعارة، والتّعريب. وربّما مرّت بالمجاز اللّغويّ المرسل وغير المرسل، والتّشبيه بأنواعه وأشكاله، وربّما ميّزت بين عبارتي: قائما بالباب وواقفا بالباب، وربّما اطّلعت على توقيت العرب في الجاهليّة بأن جعلوا لكل ساعة من ليل ونهار اسما. ففرّقوا بين السّحر والفجر والصّبح والصّباح الشروق البكور الغدوة الضّحى الهاجرة والظهيرة الخ. وربّما اطّلعت على شعر الغزل وما بثّ فيه من صور وعواطف، كقول الأحوص:
ما عالج الناسُ مثلَ الحبّ من سقم
ولا برى مثلَه عظما ولا جسدا
///
وما يلبث الحبّ أن تبدو شواهده
من المحبّ وأن لم يبده أبَدا
وشعر الفخر وما جاء به من فخامة ومبالغة، ورثاء المدن وما فيه من حزن ووصف. ربّما عرفت جريرا وبشارا وعليّا بن الجهم، والمتنبّي وأبا نواس، وحافظ إبراهيم وأحمد شوقي وغيرهم من المعاصرين. وربّما اطّلعت على نقد العرب التذوّقي وغير التّذوقيّ، فأدركت نظريّة السّياق لدى علمائنا، وقضية اللفظ والمعنى، والانتحال وغيرها . وربّما اطّلعت على معاني الاستفهام والأمر والنّهي والنّداء وغيرها. وربّما لاح لها السّرّ الصّوتيّ في النّداء في بناء العلم المفرد والنّكرة المقصودة على الضّمّ ونصب المضاف والشّبيه بالمضاف والنّكرة غير المقصودة بالفتح. والمقام لا يتسع لمزيد من التّمثيل، وإنّما هي نتف نمثّل بها على الجمال. يقول المستشرق الفرنسيّ رينان: ” من أغرب المدهشات أن تنبت تلك اللّغة القوميّة وتصل إلى درجة الكمال وسْط الصّحاري عند أمّة من الرّحّل، تلك اللّغة التي فاقت أخواتها بكثرة مفرداتها ودقّة معانيها وحسن نظام مبانيها، ولم يعرف لها في كلّ أطوار حياتها طفولة ولا شيخوخة، ولا نكاد نعلم من شأنها إلا فتوحاتها وانتصاراتها التي لا تبارى، ولا نعرف شبيها بهذه اللّغة التي ظهرت للباحثين كاملة من غير تدرّج وبقيت حافظة لكيانها من كلّ شائبة”.
يقول حافظ إبراهيم على لسان لغتنا :
أنا البحر في أحشائه الدّرّ كامن
فهل سألوا الغوّاص عن صدفاتي
ونختم بقول عمر رضي الله عنه: ” تعلّموا العربيّة فإنّها تنبت العقل وتزيد في المروءة”.
^^^
– الاحتفاء بيوم اللغة العربيّة في كلّيّة الأمّة الجامعيّة- القدس.
– كلمتي في يوم اللّغة العربيّة – كلّيّة الأمّة ــ القدس – 18/12/2021