الجدار الناري العربي منذ تاريخه التدويني واستحقاقاته
عماد خالد رحمة | برلين
لم تتوقف مراكز الأبحاث ومؤسسات الدراسات الغربية ومعها كل وسائل الميديا عن التأكيد بأننا نحن العرب كنا وما نزال نعيش في دائرة مغلقة متقوقعين على ذاتنا أو ذواتنا. هذه القضية الهامة والخطيرة في آن، دفعتنا للتساؤل هل نحن العرب بهذه الإقامة المديدة الممتدة في تلك الدائرة ومحيطها وعلى هوامشها وحوافها تجعلنا في حالة تحليق مفارق ومغاير للسرب الإنساني العام؟ وهل بهذا التحليق خارج السرب نقيِّد عقولنا ونكبّل أنفسنا بالمزيد من القيود التي تحدّ من قدرتنا على تجاوز الماضي البعيد والقريب السلبي؟ كما يمكننا أن نتساءل حول لماذا نحن على هذه الحالة؟ وما هي الأسباب والقضايا والعناصر الكفيلة بإخراجنا من نفق العتمة المستمرة؟ تلك التساؤلات وغيرها كانت دوماً مثار جدل تتفارق وتتباين فيه المقاربات والرؤى، وتتبارى حولها الأفكار والمفاهيم والأقلام والاجتهادات، وتختلط فيها التقديرات والتوازنات حد التفارقات الحادّة وغير الحميدة. لكن نجد أنفسنا في نهاية المطاف نظل نكرِّرها كما لو أنها لازمة ميكانيكية وملتصقة بنا التصاقاً قوياً ،عصية على الجواب والحل.
لقد رسخ في عقلية الكثيرين من أبناء أمتنا العربية بأن هناك مؤامرة كونية ضد أمتنا العربية، وأن هذه المؤامرة يتم تنفيذها من قبل أعدائنا التاريخيين في الغرب الذين يتوقون إلى نهب خيراتنا المادية وثرواتنا الهائلة .
مثل هذا الاستنتاج وهذا الرأي المتسارع يفتقر إلى كثيرٍ من عناصر الحقائق الموضوعية،مع العلم أننا لا نغفل هذا الدور الذي قام ويقوم به الغرب. مع إدراكنا أيضاً أنَّ المؤامرة مفهومٌ يحمل في طياته حكماً أخلاقياً يفترض أنَ لعبة الأمم قائمة على أسس نقية طهرانية ميتافيزيقية وبعيجة عن منطق العقل، وتلك معاندة ومغالبة للحقيقة التاريخية الموضوعية التي ترينا بوضوح تام بأن لعبة الأمم قائمة أساساً وجوهراً على المغالبة والسيطرة وتعبئة الفراغات الناجمة من إخفاقات البعض وعجزهم، والتدافع الذي الفطري في الخلق الإلهي منذ الصراع الفولكلوري الرمزي الأوَّل بين أبناء آدم، قابيل وهابيل ـ حسب معظم المعتقدات السماوية وغير السماوية ـ. هذه الحقيقة الموضوعية والمتجسِّدة كانت ولا تزال وستبقى الرافعة الواقعية لما جرى ويجري في تواريخ البشر منذ الصيرورة الأولى وعبر السيرورة التاريخية، وكان لنا، نحن العرب، حظ وافر من هذه المساهمة (المؤامرة)، فالصراع التاريخي وعبر سيرورته الطويلة بين الأمم المتشاطئة على حوض البحر الأبيض المتوسط استمر قروناً طويلة، وتسيج بالمرجعيات الدينية واستتباعاتها من فقه واجتها ،كما تسيّج بالفكرة العرقية (الإ ثنية)،بقدر تماهيه التام مع القوة والسلطة والحكم والملك. تقدمنا حيناً وحققنا انتصارات وكنا ظافرين.وتراجعنا أحياناً أخرى وخسرنا الكثير من المبتدأ والخبر.وهنا ينشأ التساؤل الهام: هل نسمي هذه التدافعات المتلاحقة مؤامرات بالمعنى القيمي الأخلاقي أم نسميها صدىً وترجمةً كاملةً عن لعبة الأمم التاريخية المقرونة دوماً بالدماء والحرائق والدمار والخراب والدموع ؟ وهل يمكننا الانعتاق من الاستباحة بالعويل والبكاء والصراخ المتعالي المستمر أم بامتلاك أسباب القوة والشكيمة والمنعة ؟ وهل يمكن أيضاً لسدنة القوة والمال والنفوذ والسلطان أن يراقبوا انهياراتنا وانكساراتنا الذاتية ليتركوا الساحة فارغةً لغيرهم ؟ تلك هي أسئلة مشروعة تفرض ذاتها بقوة على العقل العربي، وتضعنا على سكة الحقيقة والواقع ومنطق القوة والتطوير والتحديث.
إنَّ القراءة السياسية المعاصرة والتي تسير وفق ما قدمناه من أفقٍ ومعرفةٍ خاصة ومميزة، يجعلنا نتيقَّن أنّ التدافع الأمريكي ـ الأوروبي من جهة ،وجمهورية روسيا الاتحادية من جهةٍ ثانية، والذي يسير ضمن معادلة الشرق الأوسط تؤكِّد بما لا يدع مجالاً للشك أنَّ قيادة تلك البلدان وتحديداً في البيت الأبيض والكرملين ليس بوسعهما الاكتفاء بتقديم والنصائح والإرشادات والمواعظ (الأخلاقية) ممعنين النظر على واقع الحال، لأنهما وكما جرت وتجري النواميس والأخلاق السامية الكونية، يريان في بنية وماهية صراع الشرق الأوسط الدامي، صراعاً بينياً بين معادلتي المنعة والقوة لديهما، وكنا قد تابعنا باهتمام بالغ خلال العشرين سنة الماضية حدَّة الخلاف بين الولايات المتحدة الأمريكية وجمهورية روسيا الاتحادية، و التجليات الساخنة والدامية لذلك الخلاف في جمهوريتي جورجيا وأوكرانيا،والاحتمالات الكبيرة جداً المتوفرة لتمدَّدها في مولدوفيا وليتوانيا ولاتفيا وبولندا. الأمر الذي يبيِّن بوضوح وبما لا يدع مجالاً للشك معنى المؤامرة في لعبة الأمم الكبرى، وكيف تدار على قاعدة التبرير البراغماتي والمصلحي حد الاحتياط.
التاريخ الحديث والمعاصر هو استمرار واستنساخ للكثير من أحدا ث التاريخ القديم . فقد شهد التاريخ القديم حرباً شعواء شنها الدكتاتور الإغريقي ملك إسبرطة (آجا أمنون ابن أتروبوس وإيروبي) على مملكة طروادة المزدهرة بالعمران والبناء والعلم والمعرفة والفنون.ولم يكن آنذاك أي مبرر أو أي صلة حقيقية أو واقعية بأهدافها التي لم تتعدَّ حدود الملك والسلكة والتملك، في عصرنا الحديث وفي الحرب العالمية الأولى تضامنت ألمانيا مع الإمبراطورية النمساوية المجرية ضد عدد قليل جداً من الصربيين اللذين يسكنون في الإقليم السلافي داخل الإمبراطورية. لكن الهدف الأساسي كان أبعد مدى من كل ما جرى وما تبعه من استحقاقات، ولهذا انخرطت روسيا وبريطانيا وفرنسا في حربٍ تحالفيةٍ شعواء عاتيةٍ ضد التحالف الألماني النمساوي، لأنهم أدركوا تمام الإدراك أنَّ الهدف الألماني -النمساوي لا يكمن في تأديب حفنة من المتمردين الصرب كما كانوا يزعمون ويروِّجون له، بل في إقامة إمبراطورية كبرى في قلب أوروبا ومركزها، واليوم نتابع باهتمام ومن خلال معرفتناالمتواصلة مع دروس وعِبَر ذات السيناريوهات التي تتغطى بمبررات أبعد ما تكون عن الأهداف الشاملة والتي يمكن أن تمتد لتصبح حروباً عالمية، وذلك من أجل تغذية تلك الحروب ورعايتها بعين القبول والرضا .
نعم لقد كانت منطقتنا العربية ولاتزال تمثل جداراً نارياً له استطالاته واستحقاقاته على مدى التاريخ التدويني الذي عرفناه ونعرفه، ولقد شاءت الظروف والأقدار أن تمثل منطقتنا العربية هذه بؤرة تكثيف مركزي للصراعات الساخنة بين الشمال والجنوب في العالم الذي بيَّنت وقائعه وآثاره خلال أكثر من ثلاثة آلاف عام مضت، وازدادت كثافة النيران والحرائق والخراب النفسي والديني بالترافق مع أديان السماء الثلاثة التي هبطت على أرض منطقتنا العربية بالتحديد، ليصبح حوض البحر الأبيض المتوسط وشواطئه وامتداداته في آسيا وإفريقيا وأوروبا الحاضن الأكبر والأوسع لحروبٍ كانت ولاتزال تعيد إنتاج خرائبها ودمارها ونفخ النار من تحت رمادها بطريقة (كوموتراجيدية) أي ـ دراما سياسية ـ ، وكنا نحن العرب ولا نزال نمثِّل رأس الحربة في معادلة الصراعات الدينية والإثنية القادمة من استيهامات الكلام الديني الطائفي والمذهبي. من هنا تقع على عاتقنا إعادة مراجعة التاريخ والواقائع والأحداث والنواظم والقوانين والتشريعات.لأنَّ العودة والمراجعة المنطقية للتاريخ بكل حمولاته كفيلة بإرجاعنا إلى جادة الحق والصواب.إذ لا يمكننا الانفكاك من الاستباحة إلا بامتلاك إمكانات هزيمتها بالقوة ، لأنّ (لا يفلّ الحديدَ إلّا الحديد) .