الوعي النقديُّ في كتاب: تجييل الكتابة الشعرية في العراق بين التنظير والإجراء

د. نضال مهدي العقابي | جامعة بغداد

(دراسة في الجيل التسعيني) 

لقد تبنّى هذا الكتاب مصطلحه النقديّ(التجييل) الذي ظلَّ مشغلًا نقديًا للباحثين والدارسين، وقد عرّج على المزيد من المفاهيموالمصطلحات،وهو يعرضها لأصحابها موضّحًا من تبنّى هذه المفاهيم ومن غادرها متبنيًا مفاهيم أخرى استقرت مصطلحًا ؛ لجدّتها ولانسجامها ذاكرًا تشكّل وجهات نظر متعددة أخذت طريقها بين القبول والرفض، وقد عرض الناقد الدكتور (سعيد حميد كاظم) أنَّ ثمة مفاهيممتعدّدة منها ماوجدتمستقرّها مصطلحًا، ومنها ما ظل يدور في فلك التعدّدية حتىأخذت مشوارها في الحركة الأدبية، فأصبح لها متبنوها ومؤيدوها حتى تحوّل بعضها–فيما بعد- من مستساغٍ إلى اظهار البديل الذي يُعدّ أوسعَ وأشملُ وأكثر انسجاماً مع الرؤية النقدية فكان منها ((الحركة، التجربة، الموجة، المرحلة، الحساسية الشعرية، ومصطلحات أخرى))ولأنَّ هذه المصطلحات لم تجد ثبوتها ورسوخها فقد تعدّد استعمالها حتى انتهى بمن تبناها إلى أنْ يجد في (الجيل) المصطلح الأكثر رسوخًا، وهذا ماأثبته الناقد لمصطلحه،وهو يؤكد استقراره ونفوذ مضمونه في الأوساط الأدبية بل والنقدية ليكون تبنيه عن ( وعي نقديّ ) مقصود يُراد به توثيق الحركة الأدبية في العراق، وهي تشهد تعدّدًا في المسارات الأدبية وتطورًا واضحاً في بنية الأجناس الأدبية لينتهي به المطاف إلى (تجييل) الحركة الأدبية في العراق بوصفهم أجيالاً شعريةً لهم رؤاهم وطروحاتهم ولهم مريدوهم من المتلقين، وهنالك من أُعجب بما قدّموا من إضافات فنية وجمالية فسارَ على نهجهم وصادقَ على ما جادوا به، ويأتي الناقد ليترجم هذا التعدّد في المعرفة والتبنّي والطروحات أنّها حالة صحيّة في مضمار النقد الأدبي وهوأنْ يأتي منظرو النقد بالبدائل النقدية، وأنَّ كلّ بديل يحمل تنظيراته ومآلاتهوسياقاته الإجرائية.

  وممّا تجدر الإشارة إليه أنّ فكرة(التجييل)-ورسوخ مصطلح(الجيل)- قد حرّكت مضامين الحركة الأدبية في العراق ووجّهت مضامينها إلى وجهات متعددةوهذا ما أكّد عليه الناقد – ،كذلك فقد حمل هذا الوليد قبوله واستساغته لا سيما أنّه ينسجم ورؤى المضمون الأدبي، وبهذا ذكر الناقد الدكتور سعيد حميد كاظم رؤيته قائلًا إنَّ ((فكرة (التجييل) لها الفضل في أنّها أوجدت (حركة أدبية مميزة في العراق) انشطرت على شطرين هما: شطرٌ نقدي، وشطر ٌشعري،وكلاهما متلازمان حيث يوصل أحدهما إلى الآخر، فالضجة النقدية تترك آثارها على المنجز الشعري، والمغامرات الشعرية أو الجديدة تحفّز النقد وتستنفر نقادًا))ص5، مبيّنًا أنَّ ((أهمية الدراسة تأتي من كونها ستحاول أنْ ترسم ماهية فكرة (التجييل) وتحدد إطارها، وتتابع أصولها، ونشأتها، ومحطات سيرها البارزة،  كما أنّها ستسعى إلى محاكمة المنجز الشعري والنقدي الذي دار في فلكها، أو نبت في أرضها، وسترسم  ملامح الأصالة أو التقليد فيه، وتكشف عن الإبداع أو الإتباع فيه،  وتسعى إلى وقوفٍ عند مناطق الاتصال والانقطاع بين الأجيال المتلاحقة، فيما له علاقة بالجيل التسعيني، فضلاً عن أنّ الدراسة ستحاول أنْ تستجلي المشروع النقدي لهذا الجيل، وتقف على ( البيان) الشعري له)) ص6.

ويعرّج الناقد ذاكرًا مآلاتالتجييل ومساراته وأقسامه موضحاً أن هنالك من عوّل على (التجييلالتأريخي)ومنهم من تعكّز على (التجييل العقدي) ليختم تصنيفاته بالقول إلى (التجييل الإبداعي) وهو القسم الذي يتبناه الناقد الدكتور (سعيد) في الفرز والتشخيص وقد عوّل عليه كثيرًالينتهي به القول إلى ((لا يبدو لنا أنّ التجييل ترف تحلم به طبقات من الشعراء لكي تُلفت إليها الأنظار والأسماع ، بل هو صنيع تقف وراءه حاجة موضوعية وتقتضيه ضرورة ملحة ؛ ذلك أنّ استعراض محطات التجييل في المشهد الشعري العراقي يُبيّن لنا أنّه ما من محطة من تلك المحطات إلاّ وكانت لها خصوصية شعرية انطلقت من تنظير مختلف)).

    ومّما يؤكد اختياره عينة البحث عن الجيل التسعيني بعد تبنيه المصطلح والتنظير له أنَّ (( تجربة الجيل التسعيني نجحت في نقلنا إلى مساحة أخرى، اهتز فيها فضاء العلاقات والأفكار في النص الشعري ،حتى أفضى ذلك إلى اجتراح أساليب مغايرة متنوعة انسجامًا مع مقتضى الحال)).

لتنتهي به القناعة  إلىاختيار الجيل التسعيني من دون سواه قوله ((هكذا صرنا أمام مغرى أكثر شدّا؛ هو أنّ ساحة التسعينيين لمّا تزل أرضاً بكرا, وإنْ وطأتها دراسات سعت جاهدة إلى أنْ تفوز بسبق الاستكشاف, وسواء كانت تلك الدراسات من نمط المقالات الصحفية، أم من نمط الدراسات الأكاديمية)) ص7 ورأى أنّ المساحة الإبداعية للمدوّنة الأدبية للجيل التسعيني لمتطأها أقلام الباحثين، ولم يتسنَ لدراسة أكاديمية أن تخوض في مساراتها، لذلكفهي جديرة بأنْ تكون مادة الكتابة والبحث؛ إذ  يقول (( إنّ الذي دفعنا إلى تخصيص منطقة الاشتغال بالجيل التسعيني من دون سواه،هو أنّ الأجيال الأخرى نالت حظًاموفورًا من البحث والدراسة في دراسات سابقة أكاديمية، أو غير أكاديمية ، أمّا الجيل التسعيني فالأمر معه مختلف جداً ، فهو أمّا مغيّب لأسباب يراها بعض الدارسين (فنية) ، أو (جمالية) ،أو أنّ تجربة هذا الجيل – كما يراه بعض آخر– لم تكتمل، أو لم تنضج ، بحيث تصلح لأنْ تكون مادة للدراسة ، أو أنّ هذه التجربة لم يرافقها نقد ينهض بدراسة أكاديمية .

    لهذا فإنّ الدراسات السابقة علينا وقفت عند تخوم الجيل التسعيني، أو ميّعت ملامحه ضمن الجيل السابق له، أو لم تستشعر فيه ملامح (جيلية) خاصة)) ص6.

موضّحًا في فصول كتابه بنية التجاور في المشهد الشعري للجيلالتسعيني، ثمَّ يذكر  بنية التجاوز، ويشير إلى بنية الانقطاع والافتراق بين الجيل التسعيني والأجيال السابقة له، وكيف أنّ بنية النص التسعيني اختطّت لنفسها نهجًا وأداءً خاصينِ بها على مستوى الأداء الشعري وتوقّف عند أشهر تلك الملامح أو البنيات وهي (الفضاء الضدي و تمجيد السؤال و الخطاب المعرفي و التشكل السير ذاتي و مجانية التغريب و الهم اليومي)،ليتوقف عند البنى الشعرية التي سُجّلت في المشهد النقدي لصالح الجيل التسعيني وهي (قصيدة الشعر و قصيدة الومضة و القصيدة التفاعلية).

وبهذا إنما يقف بإزاء لحظات تأسيس نقدي نهض به هذا الكتاب، وعمل على توثيقها، وقد شخّص الفعل الإبداعي فيه إلى الحد الذي يتجاوز الكتاب وظيفة التعيين أو الإشارة إلى دالة نقديةبل ترك تنظيره أثره الواضح في مدونة البحث النقديّ، وراح يستلهم الباحثون مسوّغات تبني المصطلح وأثر المصطلحات، ولعل ما يؤكد تبنيه تثبّت تنظيره تطبيقاً فقد بسط فصول كتابه انتقالةً من التنظير إلى التطبيق، ومهّد لذلك السبل حتى كشفت محطات الفصول ومحاوره أصالة طروحاته وأوضحت مقدرته على التحليل والتعليل مستندًا إلى محددات علمية صارمة معززًا الإطار النظري بتقنيات إجرائية معضّدًا ذلك بالمسوّغات والمقومات موضحًا مدى أثر التنظير وهو يجد الإجراء سبيلًاكاشفًا عن حدوده وموضحًا أدواته ومعددًّامنطلقاته من الوعي القائم إلى الوعي الممكن لذلك نجد منظومته المصطلحية قد سارت نحو سعي متفرد وخاص به، كما هو الحال باختياره دراسة الجيل التسعيني ذاكرًا((ومن أجل أنْ يستكمل ذلك الجيل مقومات الوجود الحقيقي والفعلي, كان لابدّ له من أنْ يتبنى مشروعاً نظرياً ليجد تطبيقه في الشعر التسعيني, لذلك توقفنا في المحطة الأخيرة من هذا المبحث عند البيان الشعري للجيل التسعيني؛ فهذه المحطات الثلاث (الحاضنة، الولادة، البيان) شكّلت مسوّغاً حقيقياً للاعتراف بالشعراء التسعينيين جيلاً،ص10لذلك حمل هذا المبحث عنوانًا هو (الجيل التسعيني من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل) بمعنى متابعته منذ أن توافرت مستلزمات وجوده بالقوة وصولاً إلى وجوده الماثل للعيان بوصفه حقيقةً شاخصةً)).

لذلك تابع المصطلح وسيرورته وتطوره واستمراره وخَبَرَصلاحيته النظرية والإجرائية موضحًا مدى تمكّنه من تغطية المشهد الادبي بما اقتضته الضرورة، منتقيًا النماذج العليا ليرسم خطاها والنسج على منوالها والتأثر بمضمونها معبّرًا عن ذلك بلغته النقدية المتميزة ذات الملامح الصارمة، إذ لطالما يأوي إلى السياقات التنظيرية ويمدّها بالإجرائية حتى يمكن وسم نتاجه النقديّ بـ(الوعي) النظري والإجرائي، وبهذا فقد أمكننا أن نستقرئ  بعض ملامح كتاب الناقد الدكتور(سعيد حميد كاظم)عبر انبثاق ملامح جديدة  في رؤاه ولغته وطروحاته، وهي ما عزّز بها آفاقه التي شكّلتانعطافةً أخرىفي المشهدين الأدبيوالنقدي بعدما أفضتتحليلاته إلى معطيات معرفية وجمالية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى