حوار الواقعي والتاريخي في قصص أولاد الأفاعي

د. هشام محفوظ

مستهل

(اضرب يا رفاعي، اضرب يا ولد! ضرب الولد البارود فوق الشجر والسطوح، طار الحمام الأبيض بعيدًا بعيدًا، حلقت الغربان السود، طارت جهة الشمال، صرخت البنات، لطمت العواجز الخدود، شقت الجيوب، اضرب يا رفاعي اضرب يا ولد!) (1) ألا يشير هذا المشهد من قصة (غرباء) من المجموعة القصصية أولاد الأفاعي للجيزاوي إلى المعتم الكينونى الذي ينجم عن ضرب البارود واللااستقرار الذي يخلفه مُتجليًا في المفارقة المتمثلة في طيران (الحمام الأبيض بعيدًا بعيدًا) بمداليل السلام المتعلقة به، وتحليق الغربان السود فوق المكان، في ظل مداليل الشؤم والأحزان التي ترتبط بالغربان في الذاكرة الجمعية؟! 

هذا النص يضع يدنا كنائيًا على النتائج الرهيبة للإرهاب في بلادنا العربية والإسلامية أو خارجها، مُتخذًا الجيزاوي من هذا المشهد البسيط في القرية دلالة على صفاقة البارود المضروب بيد ولد صغير، وهنا ينفتح مجال السرد الكنائي أمام المتلقي لقصص أولاد الأفاعي للروائي خليل الجيزاوي، مُتعامدًا على حوار جمالي ندخل فيه إلى ممر التاريخ، أو منه إلى الواقع، ومنهما معًا إلى ذواتنا في حركة قرائية تبادلية نكتشف في إطارها أننا أمام افتراضات قرائية جمالية عديدة، يرجع ثراؤها الدلالي إلى احتشاد هذه الكتابة، على سبيل السرد والحوار واللغة لصناعة مناخ كنائي كثيف، يعمقه الكاتب من خلال عدة محاور. 

حوار الواقعي والتاريخي         

عندما يلوذ النص القصصي إلى البنية الكنائية مُعمقًا ذلك بمفتتح شعري لأمل دنقل فيه كناية عن البحث الحثيث عن الماضي فيقول: (أبى لا مزيد!/ أريد أبى عند بوابة القصر/ فوق حصان الحقيقة/ مُنتصبًا من جديد/ ولا أطلب المستحيل لكنه العدل! هل يرث الأرض إلا بنوها؟/ ولا تتناسى البساتين من سكنوها؟/ وهل تتنكر أعضاؤها للجذور/ لأن الجذور تهاجر في الاتجاه المعاكس؟) (2)

عندما يلوذ النص العام (أولاد الأفاعي) بهذا المفتتح الشعري لأمل دنقل، فإن ما يتبادر إلى ذهن المتلقي هو الإحساس الأولى بأنه أمام كتابة تتخذ من شعرية السرد سبيلا تعبيريًا ينهض على المغامرة باللغة والمناورة الدلالية المنبثقة من المستوى الإفرادي والتركيبي بالتشكيل اللغوي في قصص أولاد الأفاعي، خمسة وعشرون نصًا قصصيًا، أسهم فيها النص الثالث (أولاد الأفاعي) بأن وضع عنوانه عنوانًا عامًا لهذه المجموعة القصصية موظفًا فيها الروائي خليل الجيزاوي طاقات التاريخ، بموجب ضوابط جمالية مبنية على التعامل الابتكاري مع الواقع ومفرداته الاجتماعية والثقافية والدينية بطريقة تعمق وعينا بمشاركة الأدب القصصي هذا العصر الجديد من التطور والإصلاح والتحديث، ليس على المستوى السياسي فحسب، بل على كل المستويات، فمثلما قاد (فرجيل) في الكوميديا الإلهية للشاعر(دانتي) عبر الجحيم إلى الجنة وعلمه ما لم يعلم، يقودنا الواقعي قرائيًا عبر التاريخي، والتاريخي عبر الواقعي في هذه الكتابة القصصية، فإلى هذه الحوارية التبادلية بين التاريخي والواقعي يرجع الأثر الذي جعل من قصص أولاد الأفاعي رحلة سحر بوحية، ومأدبة من مآدب الدهشة، والموقفية المبنية على صعيد السرد الكنائي والحوار واللغة، ووسائل التعبير الأخرى في الأبنية النصية، وإذا كان ما يجرى في الواقع يجرى تحويله إلى مادة أدبية متخيلة، فهذا ما قدمه الكاتب من خلال خمسة وعشرين نصًا قصصيًا، ظهرت فيها قوة التخيل في الانزياح عن الواقع، دون أن يظل الواقع أغنى إدهاشًا من كل خيال.

 ففي نص (مدرس البنات) تحاورت الذات مع نفسها تحاورًا كشف عن التصارع الحاد الذي ينتاب مدرس البنات، تصارع بين الذات وما يرتبط بها من قيم وآداب للمهنة، وعاطفة إنسانية يناوشها الجموح تارة والهدوء تارة أخرى، كما تصارعها وخزات الضمير وجموح البنات في فترة المراهقة، تطالعنا الذات مؤكدة شكلا من أشكال الإصرار على النشاط والثبات عليه رغم الوحدة: (تستيقظ مبكرًا، تطوح يديك في الهواء في نصف دائرة، تنفض عن كاهلك تعب الوحدة)(3)، هذا مستهل النص، وهو إذ يكشف عن حوار الذات ذاتها، يشحذ همة النص/ الذات، لاقتحام أعماق فتيات المراهقة، وتعرية بعض إشكاليات الواقع التعليمي.

 يستل النص من لغة اليومي المعتاد في المجال المدرسي مثل هذا الحوار:

تقترب منك أكثر، تتكئ على مكتبك، تثبت عينيها الخضراوين عليك قائلة:

ـ يا مستر حضرتك على 3/3!

ـ حاضر حاضر! عارف، اتفضلى خدى الشنطة!

ـ الشنطة بس!!!(4)

هنا يضع النص المدرس في صورة الإنسان المنذور للكارثة المتمثلة في نزق هذه الطالبة، مُبرزًا مدى ما يحتاجه الموقف إلى سياسة خاصة، تقوم على التقارب الرزين المحسوب حتى تنتصر الذات على غزوات الاشتهاء التي تصرخ الذات معبرة عنها: (تشخط، تزعق فيهن نهارًا ثم تشتاق لواحدة تزورك ليلا، ولو في الأحلام، تهدهد شوقك الثائر!)(5)، كما تبدو تلك الغزوات الاشتهائية التي يتحاور فيها الذاتي مع الموروث التاريخي المترع بالقيم والتقاليد الجليلة في هذه العبارة البوحية: (في البيت تحاصرك الجارة البدينة، وهي تلح عليك أن تغسل حاجياتك، تتحدث إليك حديثا موجعا، تلهبك بلسانها السوطى، تسألك:

ـ لماذا لم تتزوج؟ بتعمل أيه في ليل الشتاء الطويل؟)(6).

العمل يطرح ببوحه وشفافية مأزقًا ذاتيًا، من خلال حوار الذات مع الذات الواقع مع التاريخ بثوابته الأخلاقية.

هذا الحوار هو بؤرة ضوء على مساحة الحوار المباشر الذي ينبغي أن يتوخاه المعلمون، خاصة مع الطالبات، في مرحلة المراهقة بشكل خاص، وهذا ما يجعل من هذه الكتابة دليلا على ثقافة المشاركة في الإصلاح. 

إنه السؤال الذي يراود العقول بقدر ما يداعب العواطف والأخيلة:هل يكون الانتماء لوطن وقيم وأرض وتاريخ وناس؟ أم الآتي المترع بالاشتهاء.

الذات لم تذعن لغزوها الصارخ سواء من جهة نزق المطالبات أو الجارة البدينة حتى لا تقع في مأزق الانتهاك لقيم الرحمة والشهامة، أو الوقوع في هوة التناقض بين ما يقدمه من رسالة تعليمية وما يقدم عليه، إن هو أقدم على  ما تجره إليه جارته البدينة وغيرها، ذلك جزء من مأساة المقارنة التي يلمح إليها النص في دهاء وبراعة، حيث يضعنا نص (خط الانكسار) عبر مساحة ينزاح فيها المعلم عن ضميره، دون أن يراعى حجم معاناة أولياء الأمور، وعجزهم عن سداد ثمن الدروس الخصوصية، فعم (محمد) الذي انشطر وعيه إلى شطرين: شطر مع صوت ابنه الوحيد الذي أتاه من أعماق نفسه: (وهو يلح عليه، بطلب النقود ثمن الدروس الخصوصية، كي يكف الأستاذ عنه غضبه المفتعل، ويدفع عن يديه عصاه الغليظة)(7)، فصرف وعيه عن أهم شيء في مهنة المحولجى وهو اليقظة!

والشطر الآخر من وعيه مع ملامح ولده وهو يقول له:(نفسي يا أبى في بنطلون جديد مثل الذي يعلنون عنه في إعلان ما قبل المسلسل)(8).

تتحجر الدموع في عيني عم محمد، فقط لضيق ذات اليد، فتصرف الدموع عينيه عن متابعة عقارب الساعة ويصرف همه ووعيه في إنجاز سلة لكي يبيعها من أجل الحصول على نقود لكي لا يقف الابن مطأطئ الرأس أمام الأستاذ والزملاء: (تتشكل أمامه صورة ولده أحمد، يستعجله في طلب النقود، القطار الذي لا يرحم يأكل بعجلاته القاسية المسافة المتبقية على المزلقان، صوت صياح وصراخ ينادى عليه:

ـ يا عم محمد القطار قادم! 

ـ يا عم محمد…. 

ينتبه للصوت المستغيث، يلمح سيارة تحاول عبور المزلقان المفتوح، يهب واقفًا مُشيرًا للسيارة بالتوقف، يجرى ناحيتها وسط القضبان. 

ـ حاسب يا عم محمد!

ـ حاسب يا…. (9).

هنا يكون خط الانكسار غزوة من غزوات انكسار الذات أمام إحدى الإشكاليات الواقعية التي تصل إلى اشتعال صراعي مرير بين المعنوي والمادي، ومن ثم يكون الأدب عُنصرًا فاعلا في ثقافة المشاركة الإصلاحية لمواجهة الدروس الخصوصية، وهذا السؤال البغيض: (من لم يحضر ثمن دروس الشهر الماضي يقف؟) سؤال كالسهم المسموم في صدر المستقبل. 

تعامد السرد الكنائي

في نص (رغبة ميتة) من هذه المجموعة يظل إصرار النص على أن يكون البوح هو سبيل الكاتب للتعبير عن تصارع الأفكار والمواقف والانزياح المدهش في الواقع عند البعض عن مساحات بيضاء من العادات والتقاليد إلى درجة الانحياز للمادة على حساب هذه المعاني الجميلة، معتمدا على حوار الواقعي مع التاريخي من خلال أشياء تتعلق بهما، في هذا النص يتحاور المكان مع المتلقي للتعبير عن توترات الإنسان وتوجهات رغبات الذات المكبوتة، فالدائرة الخضراء أمام مجمع التحرير تحتضن أسرار الأحبة حيث (يفترشان خضرة حديقة الميدان، يلمس يدها، يجذبها ناحيته، يخطف قبلة سريعة، تضربه بدلال: يخرب بيتك حد يشوفنا!)(10).

الدائرة الخضراء أمام مجمع التحرير تحتضن الأحبة، وقد يسرق واحد منهم قبلة من الحبيبة، والمفترض أن المكان 

يفرز شخوصه، لكن التوترات النفسية التي تؤرق الذات/ الواقع في ظل مناوشة ثوابت المجتمع، وفي ظل وضع مجموعة من التصرفات تحت عنوان (العيب) كل هذا جعل هذا المكان يفرز شخوصًا يعبرون عن هذه التوترات (تقترب امرأة تبيع المناديل في الميدان، تجر طفلة حافية، ممزقة الثياب، تستعطف الرجال)(11)، بائعة المناديل في الدائرة الخضراء أمام مجمع التحرير تتناغم مع توترات الذات مدركة قلق حوار الذات مع الذات في هذه اللحظة، 

وغزوات الاشتهاء التي تؤرقها في هذا المكان الدائري الأخضر، فنراها تقول من غير لف ولا دوران:

(أنا تحت أمرك يا بيه، كل ليلة في الميدان لحد وش الفجر، إذا كنت عايز تفك نفسك! لحد ما تتجوزوا)(12).

ثم ينقلنا النص بذكاء سردي كنائي إلى بنية مكانية أخرى هي بيت صاحبته تحت عين أمها، والأب على القهوة لا يطلع إلا على وش الفجر، هذا المكان على اختلافه إلا أن الأم تجعله لابنتها وبنفس مستوى بائعة المناديل، وفي نصف ساعة، أوسع من هذه الدائرة الخضراء أمام مجمع التحرير: (تسحب الشبشب في رجليها وهي تنظر لابنتها نظرة باسمة، اعملي حسابك نص ساعة، ها زور خالتك على الواقف، نص ساعة بس!) يطالعنا النص بعد ساعة برنين جرس الباب وهذه العبارة: (أنت يا طنط حضرتك مش معاك المفتاح!) والأم لا تعلق وهي تنظر إلى ابنتها (وهي لا تزال تلم شعرها، تقفل الروب ضاحكة وغامزة ناحية الرجل، صاحبك أيه طلع عنترة! وعندها ترد الأم قائلة: عنترة ده عشانك يا ماما! أما أنا عايزاه شهبندر التجار!)(13).

عندئذ تكون الدائرة الكنائية قد اكتملت في نص (رغبة ميتة) الذي تحاور فيه الواقع، وفيه هذا النمط من الشخصيات، مع التاريخ ومتعلقاته المعنوية التي أبرز النص حمم التناوش بينهما الذي وصل إلى حد الصراع الأليم، هنا يتجلى الصدق الفني والنزاهة في تناول الأحداث وتصوير الشخصيات، دون تكلف أو تجمل قام النص بحفر ثقب من ضوء داخل المجتمع في جدار بعض العلاقات العاطفية القاحلة التي لا يكلف فيها كل طرف نفسه مسؤولية التدقيق في شخصية الآخر من حيث المظهر والجوهر والمواقف، اهتم هذا الخطاب (رغبة ميتة) من قصص (أولاد الأفاعي) بضرورة مراجعة المواقف والاختيارات حتى لا يكون السقوط في شرك الانكفاء على الذات الحائرة بحجة أو أخرى، السارد/ الراوي في نهاية نص (رغبة ميتة) يسحب من جيب بنطلونه الخلفي ورقة فئة الخمسين جنيها، واضعًا إياها بين البنت وأمها على الترابيزة، وخرج صامتًا مُنكسرًا وحزينًا، هو في النهاية أحد نماذج أولئك المنكفئين على ذواتهم  المنكسرة نتيجة عدم تكليف النفس أمر التحقق والتدقيق في الآخرين، وإنه لأمر عظيم!، وهنا ثمة ما تميز هذه الكتابة القصصية ذلك التسجيل الدقيق لما تبوح به اللحظة، فالجمل نابعة في عفوية وتدفق كالماء الذي ينبجس طبيعيًا من ينبوعه، فكان إذن هذا الخطاب القصصي. 

وإذا كان الجيزاوي لم يسمح لتدخل الإرادة الواعية وما لديها من قصدية وغائية قد تفسد نزاهة السرد، فإن وعى قراءتنا له منحى آخر غايته الكشف عن الحيل التي لجأ إليها الكاتب خارجًا من نفسه ليلتقي بشخصياته ويكون رفيقا لهم، وهذه واحدة منها: 

المفارقة الموقفية/ التناص

إذا كانت الرؤية أو المضمون هو الرأي الفكري للموقف(14)؛ فإن وجهة النظر في (أولاد الأفاعي) تنبثق من بوتقة ملتقى الخارجي بالداخلي، والمألوف وغير المألوف، الواقعي بالتاريخي، يتجلى ذلك على نحو أعمق بالإجابة عن هذا السؤال: لماذا تخير الجيزاوي هذه المفارقة الموقفية الماثلة بين (نادية) في نص القناع و(هناء) في نص وخز العشق؟ فالنزعة الشبقية صارخة في نص وخز العشق، أما نهاية نص القناع فتفتح مجال لإجابة هذا السؤال، فبعد أن يكشف السارد/ الراوي في القناع أن (صاحبة القناع لم تضعه على وجهها بسبب حروق أو بهاق، وإن وجهها أبيض كما الحليب، وشعرها أصفر، وعينيها زرقاوان جميلتان فيسألها: لماذا تخفين وجهك؟ فتجيبه: غدًا عندما تكبر، تعرف وتفهم كل شيء)(15).

في نص القناع تقوم نادية بدور مقاول الأنفار في حقل القطن، تؤمن بثقافة العمل، ولا تدع جمالها الصارخ يشغل الأنفار أو يعوق نشاطهم في العمل، أما هناء في نص وخز العشق ذات السحر الذي يأسر الناظرين، والقوام الرشيق، والشعر الحرير الطويل والخصلة العنيدة التي تتدلى على الحاجب والعين ونصف الخد التي لا تريد أن تهدأ أو تستقر كصاحبتها فهي (مهرة عربية أصيلة تأرن كثيرًا وتتوق لفارس)(16)، نادية وهناء نموذجان لامرأتين يضمر فيهما السارد رؤيته للعوامل التي تصنع موقف المرأة من الحياة والعمل، والآخر/ الرجل، نادية ارتدت أسود في أسود في نص القناع لتقوم بدور أبيها المريض، مقاول الأنفار، واضعة القناع الأسود على وجهها مما يعنى عدم وجود أي ارتباك داخلي لديها، أو صراع نفسي، وإنما هو بذل أقصى درجات الجهد لإثبات قدرة المرأة على أن تكون ناجحة في العمل دون الاعتماد على شيء آخر أما هناء فهي (تملأ ردهة الدور الرابع من كلية الآداب بالضحك الرائق العالي والابتسامة الحلوة الطويلة) ومن جاورها (لا يذكر كم سبح في نار الساق الملتهبة التي تجاوره وقد نسيتها صاحبتها)(17)، وهنا نكتشف من بعض الوجوه تناصًا في نص وخز العشق ونموذج هناء مع نص قصة يوسف في القرآن من أجل تعميق هذه الرؤية المفارقية في وعى المتلقي، فامرأة العزيز لم تسمع نداء العقل والحكمة وأرهفت مستجيبة لنداء العاطفة، مما أوقعها في دائرة الخطأ وليس الخطيئة، لأنها لم تفلح في غواية يوسف عليه السلام لأنه رأى برهان ربه، كذلك خالد في وخز العشق حيث رأى برهان أمه، الأمر هنا لا يمثل ـــ مفارقيًا ـــ ثباتًا عند التباين المظهرى أو الشكلي بين (نادية) و(هناء)، فالنصان يقدمان، في إطار من الدمج القرائي الفاحص والمتوازن، رؤية الإبداع القصصي الذي نحن بصدده في قصص (أولاد الأفاعي) لما تحتاجه المرأة لمواصلة طريق المشاركة المجتمعية والعملية والميدانية مع الرجل جنبًا إلى جنب، ومن ثم فإنها ثقافة المشاركة التي هي إحدى مداليل نص القناع فالمشاركة مواجهة وإيجابية وانتصار، والانسحاب هزيمة وسلبية للمرأة والمجتمع بأسره، خالد في نص وخز العشق لم يستجب لهناء الشهيرة بالملكة وغوايتها، حيث دبرت حيلة له فصعد إلى شقتها  (ضحكت بصوت عال، تركته يقف في الصالة مدهوشًا قائلة:

 ـــ لن تهرب منى، اطمئن! اطمئن! ماما سافرت إلى الإسكندرية!) (18)

هناء لم تسمع نداء العقل والحكمة وأرهفت مستجيبة لنداء العاطفة والنزعة الشبقية الأنانية، لكنها لم تنجح في إيقاع خالد في دائرة الخطيئة، نتيجة الحضور الحي في ذاكرته لصورة وصوت أمه التي تريد له زينب ابنة خالته (نظر ناحية باب الشقة، انتفض حين شاهد أمه، تقف معصوبة الرأس، تمسك زينب بيدها اليمنى، يلبسان السواد، يبكيان بصوت مسموع، بكاء موجعا، ينظران إليه بعتاب، انتفض،اتجه ناحية باب الشقة، تعلقت به هناء متوسلة، باكية، تشبثت به، جذبت قميصه من الخلف) عندئذ يمثل لدى المتلقي حضور يوسف الصديق، مع مرعاة أوجه اختلاف أخرى، لم تمنع ذلك الحدس بأن للتناص حضورا ملتزما بأصول الفن والأخلاق ومنطق الشخصية: (بكل قوته دفعها أرضًا، فتح باب الشقة، نزل الشارع فاتحا صدره يستنشق الهواء، لا تزال تتعلق بالباب، نصف المفتوح، باكية، تشكو وحدتها، تندب حظها، تسب وتلعن كل الرجال)(19)، هذه الحيلة التناصية غرض الكاتب منها تشكيل صورة من صور تعامد الواقعي والتاريخي، متحاورين، على السرد الكنائي في أهاب خطابه الأدبي وداخله، على نحو يلفت النظر إلى حجم الصراع بين ما هو مطلق وما هو نسبى، ما هو مادي وما هو معنوي.

هنا نود أن نسجل ملاحظة في إطار هذه العلاقة المفارقتية بين نادية وهناء وهي أن الوحدة تسلم المرأة إلى الأحزان 

والآلام العاطفية وإلى نوع من الاكتئاب والاغتراب والإحساس بالضياع، هذا ما نجده عند هناء ولا نجده عند نادية كلتاهما جميلتان، لكن كل جمال في هذه الحياة إلى زوال، ولا يبقى إلا جمال العقل والفكر والعمل، والحكمة في إدارة كل هذا ضد كل معتم كينونى أو ذاتي أو إنساني، هكذا تضع المتون الحكائية من خلال الحمولات السردية الكنائية يدنا على ما يقوم به القص من متابعة واقعية ذات وظيفة اجتماعية وثقافية، لصالح العقل البشرى.

ولنا أن نتساءل: أثمة نص محوري في قصص أولاد الأفاعي يتمثل فيه الكاتب ذلك؟ 

الإجابة تقتضى أن نقول ذلك عبر العنوان التالي: النص المحور والعقدة المركزية      لم يكن محض صدفة أن يستهل الجيزاوي مجموعته القصصية بقول أمل دنقل:

 (أبى،لا مزيد/ أريد أبى عند بوابة القصر/ فوق حصان الحقيقة/ مُنتصبًا، من جديد!) هي الحقيقة إذن التي شغل بها الجيزاوي على مدار خمس وعشرين نصًا قصصيًا فتواشج في كل نص من هذه المجموعة الهيكل والرسالة والشفرة تواشجًا رزينًا على مستوى الجمل ودلالاتها، والحكاية/ والرؤية والطاقة الرمزية التي تحكم مدلول الرسالة أو المعنى الخاص لكل حكاية،(20) من هنا لم يكن التاريخي والواقعي في نزال غير متكافئ في قصص أولاد الأفاعي، ربما لأن الجيزاوي ممن يقدسون النص، أقول ذلك واضعًا في الاعتبار ذلك الافتتاح المقصود من شعر أمل دنقل أمير شعراء الرفض؛ ليلفت أنظارنا إلى طبيعة المناخ أو السياق الذي ستتحرك من خلاله نصوصه، حيث ينفذ من مدخل التاريخ إلى الواقع والعكس فيما يشبه النزال الرياضي المتعادل، فـ(أريد أبى، مُنتصبًا من جديد) هذه الجملة الشعرية تشير إلى اهتمام محدد بنبذ التقوقع داخل شرنقة الذات إلى حد العجز عن إدراك ثقافة الاختلاف والإحساس بالخطر، و(أريد أبى، مُنتصبًا من جديد) عبارة شعرية في مستهل قصص أولاد الأفاعي ذات إشارات ومؤشرات واضحة لاستيعاب النصوص القصصية لشعر أمل دنقل في مصر وقضية الرفض التي ناضل من أجلها، وكذلك استيعابها لـ(صراع الحضارات) لصامويل هنتنجتون، و(نهاية التاريخ) لفرنسيس فوكوياما، وكذلك إقبال بنات إسرائيل غير العادي على القتال والتجنيد!.

 و(أريد أبى، مُنتصبًا من جديد) إظهار لنية كشف المستور بصياغة سلطة لكل نص من أولاد الأفاعي بحيث يكون للخطاب الأدبي معنى ما، يقبل التثبيت ــ ولو بصورة مؤقتة ــ في مواجهة فوضى القراءات التفسيرية للنص الأدبي(21)، وذلك النموذج القصصي أحد نجاحات أدبنا في هذا الشأن، إذن في أولاد الأفاعي ينثال التاريخ في الواقعي انثيالا يشكل كفاءة أدبية وجمالية شفيفة في نصوص بالغة الذكاء في توظيف الطاقة الكنائية، فعندما يطل شعاع الرومانسية في أحد نماذج هذه المجموعة القصصية الرمزية فإن الممارسة الكنائية تيسر إيجاد وسيلة للتعرف على مصداقية الآخر. 

في نص (سماح): يذكر حين ناولته يدها للسلام فرد لها حجرات القلب زورقًا، أعطاها المجداف(22)، تتجلى هنا 

رغبات الإيحاء بمدى ما يحدثه السلام من ثغرة في المعتم العاطفي والكينونى ومن ثم ينفذ الجيزاوي إلى التاريخ من مدخل الواقع ناسجًا من أبنية الكناية أفقًا من التعبير عن مقومات الاستقرار لهزيمة أشكال الإرهاب المختلفة، والبندقية التي يحترمها المصريون ليست في سياق نص أولاد الأفاعي ذات مداليل تماثل البارود المضروب بيد ولد صغير في نص (غرباء) هذا النص إذ تعلو فيه أصداء الحوار بين التاريخي والواقعي والذاتي والإنساني ينذر بأن يكون محور المجموعة كلها الذي تأخذ من  خلال نصوص المجموعة كلها انبثاقاتها الدلالية لاحتوائه على العقدة المركزية، وإذا كان دور الأديب أن يراقب السياسة عن بعد، فإن الفنان يجب أن يتوارى ولا يفرض ذاته وشخصيته على حد تعبير الكاتب الإيطالي (أنطونيو تابوكى) يمكن اكتشاف ذلك التوازن من خلال هذا الدفق الحر للسرد الكنائى الهادئ المترع بحيادية المؤلف/ السارد، لكن ثمة ملاحظة من الضروري إثباتها هنا أن المؤلف/ السارد في أولاد الأفاعي لم يقع في مثل هذا الشرك الذي وقع فيه أنطونيو تابوكى حين قال: السياسي يحاول باستمرار طمأنة الناس وإقناعهم بأن الأمور تسير على ما يرام، أما الكاتب فإنه على عكس ذلك تماما لابد أن يزرع بذور الشك في نفوس الناس حيث إن القدرة على الشك هي طوق النجاة.        

لقد توارى الكاتب دون أن يزرع بذور الشك في النفوس واكتفي بتقديم نص لا تتوقف عباراته عن الحديث لتواشج هيكله وشعريته ورسالته لصياغة اليقين الفني، ففي نص أولاد الأفاعي ينفذ الكاتب إلى الواقع من التاريخ حيث تذكر( سليمان) لهزيمة 1967 التي أدت إلى أن يصبح عمه قعيدًا على الكرسي المتحرك دون أن يغادر داره لمدة ست سنوات، ولم يشف إلا بعد سماع نبأ نصر أكتوبر 1973، البندقية في هذا النص الثالث من المجموعة منغرسة في أسطر النص وعددها ثلاثة وسبعون سطرًا بالعنوان، هذه الأسطر تتضمن مناخًا كنائيًا ليشير إلى نصر أكتوبر 1973، لا ينبغي إغفال هذه العلاقة العددية التي تؤسس حجم الاختلاف بين أثر البارود ودوافعه في نص (غرباء) وفعل البندقية التي كانت خرساء ودوافع نطقها في نص(أولاد الأفاعي).ا

لآخر وثقافة الاقتحام الكارثي

سليمان حيث يقف عند النقطة 28 يؤدى خدمته العسكرية، تفصله عن البلد المجاور الأسلاك الشائكة لا يتعدى حدوده، مُلتذًا بملامسة دبلة الخطوبة، مُشاهدًا طيف إيمان خطيبته في صفو الماء، وطيف الحاجة أم سليمان تترقب عودته، ممّا يعنى إيمانه بثقافة السلام والمعاهدة واحترام الآخر وعدم التعدي على حدوده، هذا ممّا جذره السرد في نص أولاد الأفاعي، ليست هي إذن علاقة عشوائية بين هذه الحالة لسليمان عند النقطة 28 ببندقيته الخرساء والحالة الاستفزازية التي جعلته يأخذ الموقف الضد، حيث (تفور بندقية سليمان بالغضب المحبوس خلف الحدود) هنا يتجلى التعامد الكنائي على الواقعي متشجرًا بالتاريخي (يشاهد مجموعة الأولاد والبنات التي تعبر الحدود ـــ دون إذن ـــ تنتشر المجموعة اثنين اثنين، على شاطئ طابا شبه عرايا، يقبل الولد البنت العارية، يعلوها، تنظر ناحية سليمان وهي تخرج لسانها)(23).

سليمان الذي يحترم ثقافة السلام والمعاهدة واحترام الآخر والحدود المتفق عليها، يواجه ثقافة الاستفزاز والإهانة 

وثقافة الاقتحام المستفز (يقول الولد العاري بلكنة عربية لصاحبه الذي لا يزال جالسًا على الشاطئ:      

ـــ أيه خد راحتك، كل هذه الأرض ملكك وهذا الجندي (يعنى سليمان) يقف لحراستها!) 

النص ينبئ بأخطار الإرهاب الذي يتمثل في هذا الموقف الذي تسيطر فيه ثقافة الاقتحام الكارثي المتجاوز حدود الآخرين دون احترام لمعاهدة سلام دولية، على ثقافة احترام الحوار والعهود التي يتمثلها سليمان وشعبه جيدا، ولولا الإرهاب المباغت الذي اقتحم حدوده لما توقف الكلام في حلق سليمان مرًا (بينما البندقية تشدو تحصد رءوسهم).

إذن نحن أمام نص يؤسس سلطته ورسالته بتؤدة في مجال السبك الكنائى المتعامد على التاريخي/ الواقعي منداحًا 

ذلك كله في حمولات سردية أبرزت خبرة إبداعية قصصية ونجاحًا في صياغة المفارقة من خلال إقامة علاقة من الجدل والحوار الجمالي الذي ندخل به على ممر التاريخ ومنه إلى الواقع العالمي الجديد، ومنهما معًا إلى ذواتنا المترعة بنبل القصد في احترام ثقافة السلام ورفض ثقافة الاستفزاز والاقتحام، ولعل هذا أحد أصداء اختيار الجيزاوي شعر أمل دنقل في مفتتح مجموعته القصصية أولاد الأفاعي: (ولا أطلب المستحيل لكنه العدل!/ هل يرث الأرض إلا بنوها)!

الهوامش:

دراسة ألقيت في ندوة مناقشة المجموعة القصصية بدار الأدباء شارع القصر العيني القاهرة.

•أولاد الأفاعي- قصص – الكتاب الفضي- نادي القصة بالقاهرة 2004

1 ـ أولاد الأفاعي ص 121                          2 ـ السابق ص 8 

3ـ السابق ص 17                                      4 ـ السابق ص 19 

5ـ السابق ص 21                                      6 ـ السابق ص 24 

7 ـ السابق ص 66                                    8 ـ السابق ص 68 

9 ـ السابق ص 69                                    10 ـ السابق ص 34 

11 ـ السابق ص 34                                  12 ـ السابق ص 34 

13 ـ السابق ص 37 

14 ـ فؤاد قنديل ـ فن كتابة القصة ـ كتابات نقدية 123 ـ الهيئة العامة لقصور الثقافة2،2 ص 84 

15 ـ أولاد الأفاعي ص 8.                              16 ـ السابق ص  82    

17 ـ السابق ص 82                                    18 ـ السابق ص 88 ـ 89 

19 ـ السابق ص 89 

20 ـ انظر في النموذج السميوليوجى في تحليل القصة ـ د. صلاح فضل ـ نظرية البنائية في النقد الأدبى الأنجلو المصرية ـ 198. ص 413 ـ 414 

21 ـ د. عبد العزيز حمودة/ الخروج من التيه/ دراسة في سلطة النص/ عالم المعرفة/ العدد 298 /نوفمبر 2003 

22 ـ أولاد الأفاعي ص 124                   23 ـ أولاد الأفاعي ص32                               

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى