وداعا أيها الشحرور.. في رثاء الملهم الخالد عبد الكريم الكابلي
حمود ولد سليمان | غيم الصحراء
2 من ديسمبر عام 2021 في التاسعة والنصف ليلا. أتاني نعي الكابلي عبر الواتساب .أبرقت بنت ملوك النيل الخبر :رحل قبل قليل الكابلي في مستشفي متشيجان الأمريكية. مذهولا مصدوما رحت أقرأ المساجات وأقلب الصور وقلبي يعتصر ألما. أستفسر من مجموعتنا “الأستاذ الفنان عبد الكريم الكابلي” عن الرحيل الفاجع. ذي الأخت بنت ملوك النيل تبكي. وذي سهام أعولت. وذا آخر يذرف الدموع. أحسست بقلبي ينقبض وفمي يمتلأ بالدمع .وروحي تشاطر المفجوعين من وراء المحيط الأطلسي ورماله .وتبكي علي حافة ليل المحزونين في ضاحية الحي الإداري في طرف نواكشوط الليلي. حيث يختبيء الرواقيون ويدور الزمن سيزيفيا .ويتنافخ أصحاب الوقت اليكسوميون .
رحم الله عبد الكريم الكابلي .
يقينا رحل طائر الفرح .ملك الكنار .عازف الأوتار .غصة محرقةتسري .في حلقي .خانقة تحرقني في داخلي .يا إلهي في كل موت ما يؤلم وفقد الأحبة. أشد ألما . عبد الكريم الكابلي .رحل عن دنيانا الفانية في ميتشاجن الأمريكية وسيدفن في بلدة قريبة منها ……………………………
وتوالي مطر الرسائل الباكية في الواتساب …
وأحسست الزمن يدور بي فإذا أنا أنصت لمطر حيدرة في الجزائر ويأتيني صوت الكابلي من نافذتي صباحا مع سقسقة عصفور .وأنظر في شجيرات تحت نافذتي .والمطر يتساقط والكابلي يشدو بشدوه الجميل .
“عندما أعزف يا قلبي لحن الأناشيد القديمة
ويطل الفجر في قلبي علي أجنح غيمة
سأغني آخر المقطع للأرض الحميمة ” (1)سقي الله أيام الجزائر .آه .للذكري .وأعود لأول مرة سمعته فيها .
أفتش في أطياف الماضي عن كل صوره وذكرياته الجميلة . وإذا الأيام والليالي مزدحمة في شجن الذكري .
كابلي الخالد .الشاعر والفنان والموسيقار العظيم
طائر الفرح الأخضر الذي عودنا الحب والحبور علي إيقاع الوتر الخامس . .آه .من لروحي ! يا حبيب الروح .ياروحي .يا لصباحك الماطر في حيدرة . يا للحنك المسائي .يالشجنك الليلي ! يا للوقت المشتهي في ذروة الإنتشاء في كؤوس شاي ونشوة صوفي
يا سيد الشعراء والمترنمين .
من ذا بعدك يشدو :
“أين عشاقك سمار الليالي
أين من واديك يا مهد الجمال
موكب الغيد وعيد الكرنفال ” (2)
ومن بعدك يدندن الأنغام !
وأني للألحان بعدك أن تصوغ الفن والسحرا !
///
يا منتشلي من الحزن واليأس والتيه والضياع
يا سيدي العظيم .يا معلمي سحر الموسيقي الخالدة
.ياملك الكنار .يا عازف الأوتار من يشدو شدوك الجميل .أيها الشحرور الأخضر
أيها الشاعر
المسند رأسه في الظل
عند أقدام النهر .نم قرير العين .
أطياف السماء ترعاك
ورحمات الإله تغشاك .
وأسراب الشحارير ستظل تشدو حولك
لا خوف عليك . وأنت
تغمض جفنيك علي الفجر
يا جامع الرؤي لك أجمل المني
وأجمل صباح وأجمل غفوة وأجمل
فراديس الله .ماء رؤاك سيظل يروي مداك
سيظل النهر والظل والشعر مداك.وصوتك سيظل بيت الأغاني والشاعر والقصيد. وسيظل الزمان يشدو صوتك :
شذى زهرُ ولا زهرُ
فأين الظل والنهرُ
ربيع رياضنا ولي
أمن اعطافك النشرُ
وهذا النور يبسم
لي عن الدنيا ويفترُ
وأنظر لا أري بدراً
أأنت الليلة البدر
وبي سكر تملكني
وأعجب كيف بي سُكر
رددت الخمر عن شفتي
لعلك جمالك الخمرُ
نعم أنت الرحيق لنا
وانت النور والعِطرُ
وانت السِحر مقتدراً
وهل غير الهوى سحرُ
خذوا الدنيا بأجمعها
حبيب واحد ذُخر
إذا ضاءت مطالعه
فكل سماءنا بدرُ
خذوا دنياكم
هذى فدنياوتنا كُثر(3)
و أناشيد قلبك ستظل تغني” للأرض الحميمة ”
وتلملم الأرواح كل مساء .دافئة .شجية .سيظل أرغنك أنيسا للوحيد في الليل الموحش .ونايك
بين المروج سيظل رفيق المحزون .وستعود كل مساء
بفرح البلابل لروض الورد.
يا متماهيا في فيزياء النغم .يامخترقا السبات يا واطئا الصحو .في الإيقاع واللحن ..يا متحدا مع العالم .موزعا متوزعا في الوجود .يا خالدا في الزمان والمكان .أيها اللامنتهي في الشعر والفن والموت .
يا عازف الأوتار . لم تركت الكمان حزينا ؟!
وأسندت ظهرك للريح العاصف
في ميتشجن
وتركت الموت يغزو ذقنك الأبيض المتهدل الجميل
لم مت في ربيعك الخريفي
وتركت أبجدية يغمرها الصقيع والوحشة
شاهدة علي قبرك
كل متشيجن تبكيك
وتسأل عن عودتك “يا طائر الهوي ”
البحيرات صباحا تسأل عنك
كل متشيجن تبكيك . أيها الشحرور الأخضر .يا صوتا منسابا كنهر بين الصخور. يا بحة حب حبورة
يا زمة أوتار مزمومة .يا أصابعا ماهرة في اقتفاء المقاطع يا أوتار الخلود في إيقاعات الأبدية.يا فيزياء اللحن السحرية .يا كل الجمال والخلود في مرايا الله .
يا نيلا ولحنا عبقريا خالدا .يا هامة المجد .
أغنياتك خالدات باقيات ..ستظل تنشدها الأبدية
وكل اللحون ستبكي ذكراك .”إن غنت علي الأشجار أطيار.وان أترع في القلب فيض اللحن قيثار “
كل أناشيدك وأغانيك و ترانيمك .ومراثيك ومدائحك
وأشعارك ستهزم الموت . في جرح “يا ليل .يا ليل “وحزن الكمنجاة.كل أغانيك .ستبقي خالدات باقيات والبقية باقية في صوتك. يا ملك الكنار .يا عازف الأوتار .يا لمزامير الخلود في يمينك الألحان والأناشيد
يا للسامر وصفييك وخليلك الجزولي يعيد سيرة الفن
.يا للزمان معتذرا مطأطأ رأسه يذوب لحنا وشعرا ووجدانا . ويرقب المزور في تلفت القلب والجهات مصغيا :
“أري ذالك القرب صار أزورارا
وصار كثير السلام اختصارا .” (4)
في لهفة يسأل “ماذا يكون “
والإيقاع كابلي والعزف كابلي والغناء كابلي واللحن كابلي والوقت كابلي والزمان كابلي والوجود كابلي .
والمتنبي علي جواد مطهم أصيل يفتح سيرة الوقت الفردوسي .للمتوج في ساعاتك بالفرح والحزن والشعر والمجد والخلود :
“وَعِندي لَكَ الشُرُدُ السائِراتُ
لا يَختَصِصنَ مِنَ الأَرضِ دارا
قَوافٍ إِذا سِرنَ عَن مِقوَلي
وَثَبنَ الجِبالَ وَخُضنَ البِحارا”(5)
يا للإيقاع الساحر .يتمايل .يتماوج . منفردا .محتشدا .متئدا متوثبا ..يمشي مشية “نوفل “(6) فاتن الوقت
“فتي غض الإيهاب .أسمر الجبهة كالنور المذاب “(7)
في صوته تحتشد الصحراء والشعراء .
يا لنوفل” رب اللحون .يردد أنا الخالد.
يا ملهم الشعراء والمترنمين.يا سيد اللحون والوقت يا واهب الفرح . يا ابن الوردة واللحن .يا سيد المقامات والظلال. يا ملك الكنار .ياعازف الأوتار.يا حبيب الروح . سلام عليك في عليائك
يا حبيبي تبكيك روحي.
يبكيك الشعر والفن
تبكيك الكمنجات وأرغن الليل يبكيك العود والناي والوتر واليراع. تبكيك البيانو والقيثار والربابة والكمان . يبكيك الأورج.
تبكيك مروي . .تبكيك الخرطوم. تبكيك كسلا وحديقة العشاق .يبكيك قمر دورين .تبكيك بوبا .تبكيك توتي ومقرن النيل .تبكيك أم در . .تبكيك دمشق .تبكيك مصر أم جمال .تبكيك الجزائر .يبكيك الأصدقاء في وهران .تبكيك غابات كينيا والملاوي .تبكيك فلسطين .تبكيك يافا . تبكيك فينيسيا . .تبكيك أندونيسيا وباندونج . . .تبكيك النجييمات البعيدة . .يبكيك النيل والضفتان .يبكيك الظل والنهر .يبكيك تراب الحقل وحفنة الماء .يبكيك نسيم الأزاهر .يبكيك مسرح الآرام .يبكيك غزال الروض .تبكيك أغنيات القعدات والرميات والمدحات . .تبكيك كل العواصم .تبكيك البحرين
.تبكيك حلفا وأم بادر .يبكيك عهد جيرون .تبكيك مقاطع زرول . تبكيك كليوباترا .تبكيك سعاد .تبكيك سلمي وجميلة بوحيرد التي اختارت جيش التحرير ولم تبلغ بعد سن العشرين .
.يبكيك الشباب . منذ “شلت كل الريد “تبكيك الشابات منذ أنشدت :”أي صوت زار بالأمس خيالي .طاف بالقلب وغني للكمال “. تبكيك زينة وزينب . يبكيك جوموكنياتو .وعبدالناصر وبن بله رمز الثائرين
يبكيك الفانون والخالدون .
يبكيك الشعراء أبو الطيب المتنبي. وأبو فراس الحمداني وأبونواس .يبكيك أحمد شوقي والعقاد يبكيك ادريس جماع والتيجاني وتاج السر الحسن.يبكيك الحسن الحسين .يبكيك ابراهيم عوض.يبكيك صديق مدثر وعبد العزيز جمال الدين يبكيك اسحاق الحلنقي وعوض أحمد خليفة . يبكيك محمد الفيتوري وعمر الطيب الدوش يبكيك ميرغني عبد الباسط وحسن عباس صبحي .يبكيك التيجاني حاج موسي. يبكيك محمد سعيد العباسي ومحي الدين صابر
يبكيك الشعر والفن
يبكيك الشعر والفن
رحمك الله يا عبد الكريم الكابلي
أيها الملهم الخالد .
هوامش :
(1) المطلع من الخالدات التي تغني بها الملهم الخالد الكابلي وهي قصيدة آسيا وإفريقيا / للشاعر السوداني الكبير تاج السر الحسن
(2) المطلع من الخالدات التي تغني بها الملهم الخالد الكابلي وهي قصيدة الجندول للشاعر المصري علي محمود طه والتي تغني بها محمد عبد الوهاب ..
(3) شذي زهر ولازهر /قصيدة للناقد والشاعر عباس محمود العقاد وهي من الروائع الخالدات التي تغني بها الملهم الخالد عبد الكريم الكابلي
(4) المطلع من الروائع التي تغني بها الملهم الخالد الكابلي والقصيدة للمتنبي في سيف الدولة الحمداني وقد نظمها بعد مدة من انقطاعه عن مدحه. فحدث أن التقيا فسلم المتنبي علي سيف الدوله فلم يرد عليه السلام .فحزن المتنبي ونظم القصيدة
(5) من القصيدة المذكورة للمتنبي
(6) نوفل :شخصية أسطورية في التراث الموسيقي الموريتاني
تقول الأسطورة أنه من مدينة زارا وأنه كائن نصفه إنسان ونصفه جني . كان بارعا في الألحان لايضاهي .وله آلة عظيمة اقتطعها من الشجر يعزف عليها .وأنه ذات مرة كان يجول بين القري فرأي “فاطمة للي “فأحبها وصار ينشد فيها الأشعار ويعزف لها الألحان العجيبة .وعزف لها ذات مرة لحن
“فاطمة للي ..حللي الدار “فأحبته وصار علامة بينهما .عند مقدمه يعزفه فتعرف أنه هو.فتفتح له الدار ليدخل.فأغضب ذالك فتيان العشيرة أن يفوز عليهم نوفل بغانية الحي .فأحضروا من يعرف الألحان فسمع اللحن وسرقه وذاع بين الناس .فأخبرت فاطمة نوفل بذالك فعزف لحنا آخر سماه “السحو ” فلم يقدروا أن يسرقوه .
تقول الأسطورة أنه في طريقه بين المدن كان يمشي مشية أسرع من المشي ودون الجري وكان يعزف فيها لحنه الخالد “اظهر نوفل “
(7) البيت من قصيدة الجندول – علي محمود طه ..