أراني طفلاً يردد وراءك حروفه الأولى مطمئناً إلى حضنك

خالد جمعة | فلسطين

حين سألتُك في أولى ذكرياتي معك عن الندبة في رأسي، قلتِ وأنت تضحكين: كنتُ مريضةً وطلبتُ شربة ماء، وكان عمركَ لا يتجاوز السنتين والنصف، فذهبت وحملتَ إبريق الفخار الكبير المملوء بالماء، ورفضت أن يساعدك أحد فيه كي تحضره لي كي أشرب، ولأنه ثقيل عليك، أوقعتَ الابريق ووقعت فوقه، فانكسر وجرح رأسك مما تسبب في هذه الندبة، كنتَ عنيداً منذ صغرك، “والله يمة ما بعرف جايب هالعنادة من وين”…

حسناً يا أمي، لم أعرف أحداً في حياتي، ولم أقرأ عن أحد في حياتي أشد عناداً منكِ، كنتِ وما زلتِ عنيدةً حتى بعد رحيلك، في يومك الأخير رفضتِ بكل قوة أن يأخذوكِ إلى المستشفى، وبعد أن رحلتِ، صرتِ تقفين أمامي في الهواء وتضحكين وتملّسين على المسافة بيننا، وتقولين: تناول إفطارك قبل أن تذهب إلى العمل…

أراني مصنوعاً من حكاياتك وأغانيكِ ولمسة يديك، وصمتك أيضاً…

في المساء، حين كنا نتجمع حولك لتحدثينا عن خالي رزق، أخيكِ الوحيد الذي مات مبكراً قبل أن تهاجري من قريتك “حتا”، عن ذكائه وتفوقه، عن مقولات الناس حوله بأنه مات من الحسد، لشدة ما كان متميزاً، كنتِ تبكين وكأنه مات بالأمس، مع أنني كنت أحسب الزمن، فأكتشف أن عشرات الأعوام مرت على رحيله، هذه الحساسية التي لم ألمحها في أحد من قبل، ظلت ترافقك حتى يومك الأخير، ويصدح صوتك:

يا ضيوفهم عالحيط باتوا

أهل الكرم والجود ماتوا

يا ضيوفهم عالحيط ظلوا

أهل الكرم والجود ولّوا

وفيما أنظر إلى الساعة وهي تقترب من العاشرة صباحاً، موعد مكالمتي معك، تنبهت فجأة أنه لم يعد بإمكانك الحديث الآن على التليفون، إنه الآن ملقى بجانبي، ميت تماماً، لا صوتك يسعفه، ولا رقم بيتنا يحييه.

هل كنتِ عاديّةً كالأمهات كي أكتب فيكِ كلاماً عادياً؟

هل كان الأمر متعلقاً بحنانك المطلق؟ كل الأمهات يتمتعن بالحنان، هل كان الأمر يتعلق بطعامك وخبز يديك الذي لا يضاهى؟ كثيرات هن الأمهات اللواتي يعددن طعاما لا يضاهى، هل كان الأمر يتعلق بكونك الجدار الذي يفصلني عن الموت؟ جميع الأمهات يفصلن أولادهن عن الموت، فبأي شيء يتعلق الأمر إذن؟

من الغباء محاولة المعرفة، فكل أولاد المخيم كانوا يقولون لي: ليت أمك أمنا، وليت أبوك أبانا، فكنت أفتخر بذلك صغيراً، لكني لم أكن أفهم الفرق، وأظن أنني لن أفهمه حتى نهاية الحياة.

أراني كرماً في قرية حتّا…

عنادك الذي تشكل على صورة نهر يجري باتجاه واحد، لم يعط فرصةً للمساومة، أحفاد كثيرون ورثوا ذلك عنك، لم يعرفوا أي جبل سيخسرون في جغرافيا أرواحهم حين ترحلين، أظنهم عرفوا الآن، ويعاندون ما زالوا، لم يعرفوا كم نبتةً في أرواحهم غرسها صمتك الكبير، وكم قصة تعلموها من مجرد اشتغالك بالطحين والكبرياء، وسيمضي وقت أطول بكثير من عمر الدول حتى يكتشفوا أن غيابك أحدث فراغاً في مجرّة الكون الكبيرة، وسيمضي وقت أطول بكثير من عمر نجم قبل أن يظهر رحيلك في تقويم الشموس، فهناك نجوم ما زال يصل إلينا ضوؤها وهي منطفئة منذ ملايين السنين.

هل كنتِ عاديّةً كالأمهات كي أكتب فيكِ كلاماً عادياً؟

أراني خيطاً من حرير في ذيل ثوبك…

ما زال ثوبك يتيه على بقية ملابسي في الخزانة، كل غرزة فيه عالم وحدها، قصص عالم كامل بأرضه وسمائه ووروده وعصافيره وخلافات سكانه وطبخات بيوته في أيام الجمعة، لا تاريخ خارج ثوب طرزتِهِ بيديك، الحرير يبكي، والعروق تبكي، والألوان تبكي، والبلاد كلها حاضرة في الغرزات وتبكي.

أراني حرفاً في لغة لا يعرفها سواكِ…

حين كنت أصدر كتاباً جديداً، وكنتِ تصرين على أن تكون لك نسخة وحدك، مع أنك لا تعرفين القراءة التي نعرفها، لكن قراءة قلبك لم نكن نعرفها، لم يعرفها أحد، لم يكن يسعدني أحد في إصداري الجديد مثلما كنتِ تفعلين، تملّسين على الورق، وتقبلين الكلمات، وتفتحين خزانة أسرارك وتضعين الكتاب جوار أخوته، وتنظرين إليه كل صباح كأنك تنظرين إليّ ذاهباً إلى الحضانة.

أراني أذان فجرٍ توقظه بسملتك…

تقرأين آيات من القرآن كي يحفظني الله من الطريق والأشرار، وكي يعطيني الله القوة كي أحفظ أسرار قلبك، إنها ثقيلة يا أمي على الحفظ وعلى الحمل وعلى الحلم، كنتِ وما زلتِ أكبر من أن تتمكن ذاكرة واحدة من حمل تفاصيلك، كأنك البلاد، كأنك تاريخ هذا المكان، وكأن الله ركّز فيكِ أسراره ليقول لنا: هذا فعل أحسن الخالقين، فتدبروا ما ترون.

هل كنتِ عاديّةً كالأمهات كي أكتب فيكِ كلاماً عادياً؟

لم تكن التفاصيل لتفلت منك، لم يكن أحد منّا بقادر على أن يلتف على عينيك اللتين تدرسان كل شيء فينا نقطة نقطة، كتاب العلوم الكبير الذي كنت أضع فيه القصص صغيرة الحجم وأدعي أنني أذاكر دروسي، “هو مفش في المنهج تبعك إلا هذا الكتاب؟”، الألم الذي كنا نخبئه حتى عن مرايانا “مالك يمة، ليش زعلان”، بلوغنا الرجولة فجأةً دون أن يشعر أحد بذلك، “اللي كان مسموح مبارح مش مسموح اليوم يمة”، آآآه يا لكلمة يمة ويا لسحرها الذي لا يضاهيه سحر.

هل كنتِ عاديّةً كالأمهات كي أكتب فيكِ كلاماً عادياً؟

صديقي الرسام الذي حضر إلى بيتنا ذات يوم، وفرد رسمته على الطاولة، وقلتُ له إن فردتي حذاء الولد في الرسمة ليستا متشابهتين، فقال: لن ينتبه أحد فالفرق بسيط، وحين وضعتِ الشاي على الطاولة، ونظرت بطرف عينك لأقل من ثانية إلى الرسمة، وقلتِ له: ليش يا عمتي يا جميل كندرته كل فردة شِكِل؟ فذهل وذهلتُ.

أراني أراكِ…

الوقت يمضي يا أمي، وأنت الآن أقرب مما كنتِ يوماً، تطيرين حولي في كل الجهات، يتردد صوتك في فضاءات الغرف، في السيارة، في أجهزة العمل، في عيون المعزين، تتردد صورتك كتكّات الساعة، وهذه الكتابة ليست هي ما أريد قوله عنك، فأنا لم أقل شيئاً بعد، ولا أعرف إن كنتُ سأقول شيئاً يمكنه أن يصل إلى أعتاب روحك، روحك تلك التي ما تركت شيئاً في عالمي وعوالم الآخرين إلا وكان لها أثر فيه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى