الخطّاط.. قصة قصيرة

أحمد خميس | أديب وروائي سوري – اليونان – أثينا

كعادته وقبيل أن تستيقظ عائلته ينسل من فراشه بهدوء لكي لا يزعج زوجته وأبناءه، يعد لنفسه كيفما اتفق كوباً كبيراً من القهوة اليونانية، يحتضنه، ثم يحمل كرسيّه الخشبي الصغير قاصداً البحر الذي لا يبعد عن كوخه مسبق الصنع بضع خطوات ليس أكثر.
(سكاراماغاس) هنا في هذا المرفأ الذي حولته الحكومة اليونانية إلى مركزِ إيواءٍ للهاربين من أوطانهم عرباً وكورداً وفرساً وأفارقة. كان يسكن زياد وزوجه وأطفاله الثلاثة، معسّكر تتآكل فيه الطموحات، تتوازى فيه الرغبة في الحياة أو الموت، ربما هي عقوبة التمرّد على زيوس؛ فللإغريق أساليبهم في عقاب من يرجمون الآلهة.
زياد رجل شارف على الأربعين ، نحيل كحورة، هادئ كساقية وسط الجبال، خطّاطٌ يستهويه الثُلثُ، والديواني؛ لم يكن يتوقف عن وصف أنواع الخط العربيّ بالنساء؛ فالغنج بالفارسي، والرصانة بالرقعة، والدلع بالنسخ.
أن تكون خطّاطاً يشبه كونك عاشقاً، تنصهر روحك بالحروف وشكلها، وتمايلها الساحر، تشعر بالسكينة إذا ما أتممت لوحة تضيفها إلى قائمة لوحاتك التي تزدان بها جدران بيتك.
على البحر كان جالساً صبيحة يوم من أيام شباط الغائمة هنا في أثينا الدافئة، كانت جبال “إلفسينا” القريبة من مقطنه والتي كان يراها أشبه بسنُم جمال عملاقة يكاد يسمع هميس خفافها في صحراء قلبه وروحه المعذبة اشتياقا، والغيم فوقها يتبخر نحو مكان وجدت فيه شمس الضحى منبلجاً لها نحو رمادية البحر الفاغر فمه لحبيبات المطر الخفيفة التي جعلت تبلل أوراقه التي ما انفكَّ يخرجها كل صباح معه، رفقة قهوته اليونانية وكرسيه الخشبي.
ابتسم ببلاهة حينما جرفه سيل الذكريات ومسح دمعة غدرت به.
ترى إلى متى سيبقى هذا الخط العربي يكسرني، إلى متى سأبقى مضافاً إلى عالم ليس لي، متصلاً ببلاد ليس لها محل من الإعراب.
قال في نفسه ونظر إلى السماء، ووضع أوراقه على فخذيه وأسلمَ نفسه للمطرِ، والذكريات.
كانت القرية عن بكرة أبيها تنام باكراً سوى عن بعض العاشقين الذين يلوذون بالديجور ليسرقوا من الوقت لحظة يختلون فيها بحبيباتهم، يقبّلون ضفائرهن، ويعدوهن بأحلام سرقتها العواصف والبحار.
يتسللُ إلى الجدران التي كانت مسرحه، يكتبُ عليها بخطّه الرصين أحلامه وأمانيه، يسمع أنين عاشقة هنا، وصدى همسٍ ناعم هناك، فيبستم ويغضّ الطرف وينتقل لجدار تلو جدار.

عشقتِ الحرائر خطّه، وهام الحالمون بذلك الخطاط الذي غدا حكاية الثائرين.
كانت ريشته بألف بندقية، وكلماته أكثر ضرارة من أزيز الرصاص.
انتصف النهار ولا زالت روحه هناك معلّقة على الحيطان كدالية تصعد بأغصانها نحو السماء.
وكعادتها كانت زوجته تأتيه عقب ساعتين من خلوته، تجلس خلفه وتربت على كتفه محضرةً معها منديلها، وكوباً آخر من القهوة، تضعه بين يديه، يرتشفُ نصفه دفعة واحدة. ويلتفتُ إليها قائلاً بصوته المرتعش :
لقد عدتُ الآن بعد أن كتبتُ عبارات جديدة على سور المدرسة الثانوية التي لم يتسن لي الكتابة عليها قبل عشرة أعوام.
تنهض وتحمل أوراقه، تقبّل راحتيه الثخينتين، وتمسح ما اندلق على صدره من قهوة بمنديلها القماشي الذي اعتادت غسلَه بدموعها مذ أن اقتلعوا أصابعه … والى اليوم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى