الفلسفة ما بين المحايثة التقليدية وفلسفة ما بعد الحداثة
عماد خالد رحمة | برلين
لم يتوقف العقلاء والجهابذة وأصحاب العقول النضرة عن الحديث يوماً عن أهمية الفلسفة في واقعنا العربي الذي نعيشه. في حين كانت هناك تساؤلات من بعض المجموعات الشعبية تتعلّق بالفلسفة وأهميتها ودورها في حياتنا ، تلك التساؤلات التي يمكن وصفها بالساذجة وذلك لأنها تنطوي على رؤية قاصرة، تجعل العاملين في حقل الفلسفة ينبرون للدفاع عنها، بوصفها النشاط العلمي الأكثر قرباً والأكثر التصاقاً بالإنسان ووجوده. فقد كان من الاسهامات الهامة للفلسفة أنها غيّرت الإنسان وحوَّلته إلى موضوع للدراسة والبحث. ولأنه يمكن قراءة الحداثة كأثر هام من آثار الفلسفة، ذلك أن الفلسفة كانت هي مضمون ومحتوى الحداثة، فتلازم مسار الحداثة بمسار الفلسفة شديد الإلحاح، أو على حد وصف الفيلسوف الألماني جورج فيلهلم فريدريش هيغل: (يستحيل التوصل إلى حقيقة المفهوم الذي تدركه الفلسفة ذاتها، خارج حقيقة مفهوم الحداثة).بمعنى أن الحداثة بما تتناوله من مواضيع هامة لم تكن مجرد نقْلة ضيقة أو مختزلة للحياة، فالحداثة لم تكن نقلة تقنية أو ميكانيكية، بل أصبحت(التقنية) – ذاتها – موضوعاً رئيسياً للحداثة، وصعوبة رصد ثمار معدودة لأثر الفلسفة على الواقع المعاش، يأتي من كون كل نظرية فلسفية لها مهمتها الخاصة أنتجت دينامية مختلفة ومتنوعة للحياة لها سياقها، إذ يمكن الرجوع إلى أهم النظريات الحديثة، وربطها بنتائجها، ومن ثم اعتبارها ضمن الآثار التي تم تثبيتها ،ورسَّختها الطروحات الفلسفية المتعدّدة وجادت بها على العالم أجمع.وإذا كان الفيلسوف ميشيل فوكو قد كتب عن الفيلسوف الألماني عمانوئيل كانط : (ما يهم عمانوئيل كانط هو الإصلاح الفكري والثقافي والمعرفي وتمكين المواطنين من الحصول على قسط من الحرية تمكنهم من التفكير بشكلٍ تلقائي) . فلو وافقنا ما قاله الفيلسوف الألماني جورج هيغل بأنَّ فلسفة كانط هي مركز العالم ونوع خاص من التأويل الذاتي له ، وأنَّ عصر الأنوار ينعكس بشكلٍ كبير في فلسفة كانط . وفي حقيقة الأمر فإنَّ الوعي الفلسفي بالحداثة يتجلى بشكلٍ صريح وواضح لدى الفيلسوف هيغل لكن ما يميو فلسفة كانط بحسب تعبير ميشيل فوكو أنه وضع الإنسان بشكلٍ فعلي موضوعاً للدراسة والبحث. كما أنه وافق ميشيل فوكو أيضاً، وهو أوَّل فيلسوف يتخذ من عصره وحاضره موضوعاً هاماً للتفكير .
الجدير بالذكر أنّ فلسفة الحداثة بدأت في القرن السابع عشر على يد عمالقة الفلاسفة والمفكرين والأدباء والفنانين في أوروبا، من أمثال الكاتب والفيلسوف الفرنسي فرانسوا ماري آروويه، ويعرف باسم شهرته فولتير ،والفيلسوف والكاتب والمحلل السياسي السويسري جان جاك روسو الذي أثَّرت أفكاره السياسية في الثورة الفرنسية ،والفيلسوف والاقتصادي والمؤرِّخ الاسكتلندي الذي يتمتع بشخصية عامة في الفلسفة الغربية ،والفيلسوف الألماني عمانوئيل كانط،، والفيلسوف الألماني جورج فيلهليم فريدريش هيغل والفيلسوف الألماني كارل ماركس، والفيلسوف اللاهوتي الدانماركي سورين كيركجارد أو (سورين كيركغارد) وغيرهم. واكبت الحداثة عصر الانوار أو ما يطلق عليه أيضاً عصر المنطق وهو حركة فلسفية وفكريةهيمنت على عالم الأفكار في القارة الأوروبية خلال القرن الثامن عشر هذا العصر الذي كان يتمحور نشاطه حول موضوع واحد ألا وهو الإنسان أوّلاً وأخيراً،فكأنما كان الفكر الإنساني يشبه قطرات ماء من المطر أينما تسقط لا بدَّ أن تتجاذب وتتلاصق معا وتنبت الأرض البور، وتتوجه عبر جداول وأنهار لتلتقي لتشكّل بحيرة عنوانها الإنسان وموضوعه الوجودي.
في هذا السياق كتب الفيلسوف عمانويل كانط مقالةً هامة نشرها عام 1784 م وصف من خلالها موجز بداية الحداثة وعصر الأنوار كتب قائلاً: (إنَّ جوهر ولب مشروع التنوير والحداثة هو تحرير الإنسان من جميع القوى التي تستلبه والتي تقف حائلاً بينه وبين حريته في إعمال عقله ،وممارسة اختياراته، وتحديد مصيره. وتشكيل تصوراته عن العالم، فالحرية هي الأساس في هي عملية إعادة الاعتبار للإنسان وجوهره الإنساني في هذا العالم ورفع أغلال جميع القوى التي تسلب ذاتيته ووجوده).
من الناحية التاريخية جاء عصر الأنوار أو عصر المنطق بعد عصر النهضة. وهو حركة ثقافية استمرت تقريباً من القرن الرابع عشر الميلادي إلى القرن السابع عشر الميلادي، وكانت بدايته في أواخر العصور الوسطى من إيطاليا ثم أخذت في الانتشار إلى بقية أرجاء القارة الأوروبية. هذا العصر يختلف عنه من حيث طموحاته وتوجهاته مثل القضاء على النظام الإقطاعي والسلطات الدينية الروحية والمماليك التي كانت بيد البارونات من خلال تأسيس النظام الليبرالي وتشجيعه.
في عصر الحداثة أو عصر الأنوار اعتبرت الحرية الشخصية نقطة الارتكاز الأساسية لجميع المفاهيم والحركات والايدولوجيات، فأصحبت المبدأ الأكثر قداسة وتبجيلاً، ولازالت شعوب دولنا العربية ودول العالم الثالث تناضل من أجل نيل حريتها واستقلالها من الاستغلال والاستعباد. أما في الغرب الأوروبي ـ الأمريكي فقد أصبحت الحرية الفردية أو الحرية الذاتية جزء هام جداً من صميم حضارتها. حيث بدأ الفرد الاعتماد على نفسه، لأن مقولة الفيلسوف الألماني عمانوئيل كانط: )للإنسان العقل الذي يمكنه من صنع التاريخ الإنساني من خلال نشاطه الذاتي) أصبحت مستند وركيزة يحتفظ به كل فرد، بل يعيشها. هذه الفردية أو الفردانية انقلبت رأساً على عقب وتحوَّلت إلى معضلة كبيرة وخطيرة في عصر الحديث تحت عنوان جديد (الفلسفة الفردانية)، حيث أصيبت الإنسانية بهذا المرض العضال على الرغم من كل الحواجز والعوائق التي عملها المصلحون والمفكرون قبل واثناء النهضة. حيث فتح عصر الانوار افاق ممارسة حرية الفكر والعمل والتملك والتنقل والتنافس والعطاء كما يشاء، فكانت النتيجة في نهاية القرن العشرين حالات الانفلات الأخلاقي والتشظي والضياع، والانغماس في الملذات وتحقيق أواء النفس والابتعاد عن الموضوعية، وترك مشاكل وهموم العالم لبداية العصر الجديد عصر (فلسفة ما بعد الحداثة). و(فلسفة ما بعد الحداثة) هي أحدث مدرسة فلسفية، رفضت الأساس الذي نبتت عليها الفلسفات القديمة،وتحديداً الفلسفات اليونانية، حيث تعمل بعكسها تماماً، لأن بحسب آراء الفلاسفة المجددين المحدثين ، إنها تميل إلى ممارسة السيطرة والطغيان الفكري في ادعائها أنها تمتلك الحقيقة وحدها أو الطريق لبلوغها.
بدأت أفكار هذه المدرسة على يد الروائي والفيلسوف الفرنسي جورج باتيلي أو جورج باطاي (1897-1962) من مؤلفاته ): الشبقية)،و(التجربة الباطنية). الذي تأثر بالنزعة السوريالية وكتابات نيتشه . وهو الروائي الذي دعى إلى موت الموضوعية ودفنها وإعلان طغيان الذاتية على فكر الإنسان وعقله، من خلال عملية تفكيك القضايا المتشابكة عوضاً من بنائها أو ربطها معاً. فدعى إلى تغير اتجاه الفكر الفلسفي القديم، الذي كان دائما يسعى إلى التمركز والوحدة في القضايا الشائكة التي كان يعالجها (الإنسان ومشاكله)، الى تفكيك القضايا أو المواضيع عن بعضها، أو إقامة استقلال وفواصل بينها، كي يتم خلق فسحة أكبر أمام الإنسان لممارسة حريته والتخلص من القيود والحواجز التي تركتها القيم الأخلاقية والروحية والفكرية السائدة على مسيرة تقدم الانسان، والتي كانت تحسب حسب آرائهم وما يفكرون به (فلاسفة ما بعد الحداثة) عقبة أمام الإنسان في الوصول إلى تحقيق إنسانيته وسعادته. لم يكن جورج باتيلي أو جورج باطاي هو الوحيد دعى إلى إجراء تغير جذري في البحث والتقصي عن الحقيقة فقط، وتغير المسلمات (مثل الموضوعية الى الذاتية) وإنما رافقه نخبة من الفلاسفة والعلماء وعلماء النفس والمصلحيين الاجتماعيين.
المتأمّل في مسيرة وتطور فكر الإنسان يشعر بإنَّ هناك صراع حاد بين المدارس الفلسفية على تنوعها واتجاهاتها وكأنها حروب شرسة وطاحنة بين منظومتين متعارضتين . ومن الواضح أنّ قراءة الفترة التي تطورت فيها فكرة الفلسفة التفكيكية لدى الفيلسوف والناقد الفرنسي جاك دريدا الذي كان ذو اتجاه أو أفق يساري الفكر في بداية حياته، أنه تأثَّر بطريقة تفكير عمالقة الفلاسفة الآنفة الذكر في المدرستين البنيوية والظاهراتية وما قبلهما. فنضجت أفكاره في علوم اللغة ليصل إلى وضع أسس وقواعد الفلسفة التفكيكية في محاولة منه للقضاء على النظام الثنائي الذي كان متبع في المدارس الفلسفية القديمة، فاعتقد أنَّ كسر المقولات والقيود تقود الإنسان إلى القبض على الحقيقة بكليتها، لم يفكر في العبثية والعدمية والتشظي التي ظهرت بسببها، لم توافق على تطلعات الحداثة ومنظومتها ،ولا(ما بعد الحداثة) معظم الأديان والطوائف والمذاهب ومدارسها الفكرية، وقد لا توافق عليها قوانين الطبيعة وأقانيمها نفسها، ولكن في الحقيقة وعلى أرض الواقع تشق طريقها هذه الأفكار وتلك المفاهيم.
لقد سعت جميع المدارس الفكرية العلمية والفلسفية الجديدة في عصر الأنوار إلى كسر القيود والقفز على الحواجز القديمة وكسر المنطق الأرسطوطاليسي ، والاعتماد بشكل كبير على المقولات والصياغات الفكرية التي ناضل من أجلها معظم العاملين في حقل المعرفة البشرية مثل : (الفلسفة والعلوم والأديان) قبلها.وكان الفيلسوف جورج باتيلي قد سبق الفيلسوف وعالم اللغة السويسري الشهير فرديناند دي سوسير، أو فرديناند دي سوسور (1857-1913) في وضع أساس الفلسفة البنيوية الذي يعتبر بمثابة الأب لهذه المدرسة ، ومن بعده جاء الفيلسوف الألماني إدموند هوسرل مؤسس الظاهريات ووضع أسس هذه الفلسفة مؤلف كتاب : (أفكار عامة لفلسفة ظاهرية خالصة) عام1911م. ثم جاء عالم الاجتماع الفيلسوف الانتثروبولوجي الفرنسي كلود ليفي ستروس (2009-1908) م .الذي طور مفهومها الى حد جعل الشك يدور حول أساس المعرفة الإنسانية وخصائها .
لقد سعى الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا من خلال فلسفته التفكيكية أو (ما بعد الحداثة) هو اكتساب الشرعية للفكرة التي قدمها: (من المستحيل وجود نص كامل متكامل يمكن أن يقرأه كل القراء ويفهمون بنفس المعنى والمدلول). وأنَّ أي نص مكتوب له أكثر من تفسير أو شرح، بل حتى مدلولات كلمات تتغير حسب الشخص الذي يقرأه،هذه النتيجة أدّت إلى شروع القيام بثورة على القواميس والموسوعات والمعرفة الإنسانية كل حقول المعرفة بسبب عدم استقرار معانيها وتأرجح ومدلولاتها بسبب هذه الأفكار وتلك المفاهيم التي قد تكون أكثر صحيحة. في حقيقة الأمر فإنّ هذا الصراع الفكري الساخن الذي لا يشعر به الإنسان العادي ويعيشه بشكلٍ غير منظور وغير مرئي، أدخل الإنسان في مأزق كبير في نهاية مسيرته، فبعدما تمكن رواد مرحلة الأنوار من النجاح في جعل الإنسان وحريته هدف لكل حكومة او مؤسسة أو إدارة أو هيئة أو حزب أو مجموعة بشرية لها خصائصها المميزة، جاءت مرحلة (ما بعد الحداثة) لتفكك وتعمل انقسام وبعثرة تشظي في المعرفة الإنسانية التي وثقها وخزّنها الإنسان وبرمجها في مقولات أساسية محكمة وثابتة، فأحدثت (ما بعد الحداثة) فوضى في جملة المعايير والمقاييس الاجتماعية وقادته إلى مرحلة العدمية أو عدم وجود ضرورة ملحّة للاستمرار في الحفاظ والدفاع عن القيم والتقاليد والعادات والتعاليم الدينية وما يتفرع عنها من طوائف ومذاهب بحجة أنها تسلب حرية الفكر وتطلعاته. لكن ما نلاحظه بقوة هو المشارك في الصراع الاجتماعي الساخن بين الشرق والغرب.