حكايا من القرايا “خذ اللحم ورجّع العظم”

عمر عبد الرحمن نمر| فلسطين

 (في إحدى المدارس، التي خرّجت معلمين، وأطباء، ومهندسين… ) خضع الطالب “عبد الجليل صالح مسعد الدهني” لتفتيش في طابور المدرسة الصباحي، استهدف التفتيش: أظافر الطالب، وشعر رأسه، وهندامه، ومحرمته القماشية… إلخ، وبعد التفتيش، قرر مدير المدرسة، والمناوب والمعلم المفتش عودة الطالب إلى بيته، كي يستحم ويقص أظافره، ويبدل ثيابه.

دخل الطلاب إلى الصفوف، بينما ترك عبد الجليل كيس كتبه القماشي في المدرسة، وعاد إلى البيت لاستكمال إجراءات الدخول…

كان ذلك في ستينيات القرن الماضي، حيث كان لا غضاضة في رقع البنطلون بأكثر من رقعة، ولا غضاضة في بقعتين من الزيت عليه، لا أكثر، وكان المعلم دائم القول ” كل إنت، ولا تطعم أواعيك” وكانت جلدة الرؤوس تعكس أشعة الشمس كأنها مرآة، لمكافحة تلك الحشرة الخبيثة. والشطيرة، ربع رغيف طابوني مدهون بالزيت أو رب البندورة أو بكليهما… وقفّورة العجوة سلة غدائنا، وربما عشائنا أيضاً… في ذاك الواقع كان الحرص على التعليم شديداً، كان ولي الأمر يقول للمعلم ” خذو لحم، ورجّعو عظم” ، أي عاقب الولد كيفما شئت، المهم أن يتعلم الولد…

وما لنا، وتلك الأيام… بعد قليل عاد عبد الجليل، ولم يتغير فيه شيء، سأله المعلم: ما فعلت يا عبد الجليل؟ – أجاب: لا شيء معلمي، لا أحد في البيت، كلهم سارحون في السهل… قال المعلم: التي تسكن بجانب بيتكم، أليست عمتك؟ قال: بلى عمتي… صاح المعلم: اذهب إليها، ودعها تحممك، وتبدل ثيابك…

رجع الحزين إلى البيت، وزاد حزنه، كيف يكلف عمته بهذه المهمة؟ لا… لا… إنه يخجل من ذلك… تناول مفتاح البيت من تحت مقر الدجاج، ودخل البيت، انتشل من البير رَكْوتَيْ ماء، وضع الماء في طنجرة، وأشعل بابور الكاز، ووضع الطنجرة عليه ليسخن الماء، ويغتسل وحده…

مضت الحصة الأولى، والثانية ونصف الثالثة، ولم يعد عبد الجليل، بدأ المدير والمعلمون بالقلق عليه، أرسل المدير طالبين إلى بيت عبد الجليل لاستطلاع أمره… وجداه مشغولاً بتسخين الماء، رجعا إلى المدرسة بالخبر اليقين… زاد قلق المدير والمعلمين، فأرسل الطالبين كرّةً أخرى، يدعوانه للعودة إلى المدرسة… وصلاه وطلبا منه ذلك… لكنه رفض رفضاً شديداً، وصمم أن لا يرجع إلا بعد الحمّام… وأوغر الطالبان صدر المدير على عبد الجليل، بأنه شتم المدير والمعلمين والمدرسة، وفي ذلك كانا كاذبين… قال المدير بلهجة قاسية وآمرة: اذهبا إليه وأحضراه إلى المدرسة… يجب أن يكون هنا خلال دقائق… ركض الولدان القويان، وفتحا الباب على عبد الجليل، ولما رفض العودة إلا بعد إتمام حمّامه… حملاه عارياً… وعن بعد رأى الطلاب المشهد والمعلمون، وأسقط في يد المدير… وأصبح يصيح بلا وعي… أرجعاه إلى البيت… أرجعاه… عودا به… عودا به… عودا به… وعاد عبد الجليل، وهو يصيح… ويصيح… ويصيح..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى