شعر مديح المتنبي في مصر.. قراءة ثقافية
د. هالة فرحان | أكاديمية مصرية
المتنبي الذي ملأ الدنيا وشغل الناس جاء إلى مصر بدعوة من كافور الإخشيدي، ومكث بها حوالي أربع سنوات قال فيهم حوالي ستًا وعشرين قصيدة وبعض المقطوعات ، وتعددت أغراض شعره بين مدح وهجاء ورثاء وفخر وشعر سياسي …… إلخ فكانت هذه الفترة في حياة الشاعر فترة تحول بالنسبة له، فبعد أن كان يمدح من أجل المال مدح من أجل السلطة والجاه ، وبعد أن مدح سيف الدولة وهو الملك العربي مدح كافور وهو بالنسبة له العبد الأعجمي، وتبلورت عنده فكرة الزمن وظهرت عنده بنزعة الحزن والتشاؤم ولم تكن موجودة عنده من قبل.
المديح هو الغرض الأساسي الذي بنى المتنبي عليه قصائده في مصر، وهو من أكثر الأغراض ارتباطا بالغزل عنده ، وقد اشتهر المتنبي ببراعته في المديح لذلك أرسل إليه كافور للقدوم إلي مصر، ولكن المتنبي أبى في أول الأمر، وبعد ذلك خضع إلي مطلب كافور وجاء إلي مصر مادحا إياه ؛ طمعا منه في أن يلقى عنده ما لم يجده عند سيف الدولة، فكان يمدح سيف الدولة أو الملوك لينال العطايا والأموال منهم لكن الوضع في مصر مختلف فهو لا يريد المال فعنده ما يكفيه منه ولكنه يريد السلطان والجاه، ففي كل مدائحه يشير إلي مطلبه من كافور فهو يرى أنه خلق من أجل الملك والقيادة، وفي المقابل كان المتنبي يحاول أن يرضي كافور بأي ثمن لكي يحصل علي شيء منه يساعده في تحقيق ما يريد، وأن المتنبي ذهب إلي كافور رغما عنه بعد أن أصيب بخيبة أمل من سيف الدولة ، فجعلته هذه الطعنة يفيق ويرجع إلي ما كان يتمناه ولكن اختلط طلبه عند كافور باليأس والضياع ، وأقبل عليه وقد ماتت نفسه وكان المتنبي كارها لكافور فلا تراه يمدحه من تلقاء نفسه بل إنه كان يمدحه بعد أن يطلب كافور ذلك منه .
لقد مدح المتنبي كافور الإخشيدي بثمان قصائد وهنأه في قصيدتين و قطعتين، برع فيها المتنبي كي ينال رضي كافور ويوليه إحدى الولايات التابعة له فعندما كان يمدحه كان يذكر ألفاظًا مثل ( الملك – الأستاذ – الملك الأستاذ – أبا المسك – أبا كل طيب )، فلقد جاءت قصائد المتنبي في مصر ألفاظها ملائمة للغرض الذي يتحدث فيه، والجو النفسي المحيط به فتجد في مدائحه التعظيم ورفع شأن ممدوحه لكي ينال رضاه ؛ فعندما ” فارق أبو الطيب سيف الدولة ورحل إلي دمشق وكاتبه كافور بالمسير إليه ، فلما ورد مصر أخلي له كافور دارًا وخلع عليه وحمل إليه اّلافا من الدراهم
كَفى بِـكَ داءً أَن تَرى المَوتَ شافِيا | وَحَسبُ المَنايا أَن يَكُنَّ أمانيا |
وقد عد بعض المحدثين استهلال المتنبي أول قصيدة يقولها أمام ممدوحه بهذا البيت خطأ كبيرًا ، وهو من سوء الاستهلال، ولكنه في هذه القصيدة يتحدث عن حزنه واضطراب قلبه بين صديقه الذي غدر به وهو سيف الدولة وبين كافور الذي رجا عنده بلوغ غايته، وقد أعرب عن عظيم أمله في كافور ومن ثم بالغ في مدحه فأشارته إلى سيف الدولة في هذه الأبيات وتحامله عليه واضطراره إلى مفارقته، هي التي جعلت مطلع قصيدته بهذا الأبيات التي يتطير منها السامع .
وهو يطلب من كافور أن يفي له بوعده ويترك سيف الدولة؛ فقد أحب قلبه هو قبل أن يحب قلب هذا الأمير وهذا إعراب عن توزيع المتنبي لقلبه بين أصدقائه القدماء وبين انتصافه لنفسه ومفارقتهم ومدح كافور والمتنبي هنا يعبر عن سمة تميز بها هذا العصر، وهى أن معظم الأدباء والشعراء تقلدوا مناصب في بلاط الدولة مثل القاضي الفاضل وابن سناء الملك وغيرهم، ولم يكتفِ المتنبي فيها بمدح كافور فقط، ولكنه كان يعرض بسيف الدولة فيقول:
قالوا هَجَرتَ إِلَيهِ الغَيثَ قُلتُ لَهُم إِلى الَّذي تَهَبُ الدَولاتِ راحَتُهُ |
إِلى غُيوثِ يَدَيهِ وَالشَآبيبِ وَلا يَمُنُّ عَلـى آثـارِ مَوهـوبِ |
فهنا يقول يلومني الناس علي ترك سيف الدولة وهو الكريم، ولكني تركت الغيث إلي الغيوث أي لمن هو أكرم منه إلي الذي يعطي الهبات الكثيرة والعطاء الجزيل، ولا يتبع ما أعطي بالمن وفيه مقارنة خفية جلية يبدو فيها التعريض بسيف الدولة واضحا ، وهنا يتجلى ملمح من ملامح ثقافة العصر ، حيث كان الأدباء يلجؤون إلي هذه الحيلة لكي يحصلوا على ما يريدون من الحكام ، وفيه دلالة على صغر مكانة الحكام ؛ فهم لا يهمهم إلا الاستقرار في الحكم ، وأكبر ما يطمحون إليهم أن يفضلهم الأدباء على غيرهم من الحكام ، وبخاصة أن الدولة العباسية لم يَبْق منها إلا الشكل بعد أن تمزقت إلى دويلات .
ففي هذه القصيدة مع مدحه لكافور يعرض أيضا بما يريده من كافور ولكنه لم يصرح بها كما يفعل دائمًا فيقول:
فَإِن نِلتُ ما أَمَّلتُ مِنكَ فَرُبَّما وَوَعدُكَ فِعلٌ قَبلَ وَعدٍ لِأَنَّهُ فَكُن في اِصطِناعي مُحسِناً كَمُجَرِّبٍ |
شَرِبتُ بِماءٍ يَعجِزُ الطَيرَ وِردُهُ نَظيرُ فَعالِ الصادِقِ القَولِ وَعدُهُ يَبِن لَكَ تَقريبُ الجَوادِ وَشَدُّهُ |
وهو هنا يشير إلي ما كان يأمله منه وما كان يطلبه منه من تفويض ولاية إليه، وكان كافور قد وعده بذلك عندما جاء إلي مصر، فالشاعر لا يريد من كافور المال البالي وإنما يريد المجد الذي كان يسعى إليه؛ فلم يكن المال هدف المتنبي عندما جاء إلي مصر وأنه لا يريد المال فلو كان المال مراده لمكث عند سيف الدولة ولكنه يتطلع إلي أعلى من ذلك إلى إمارة أو ولاية يتربع عليها.
فيما سبق كان المتنبي يشير إلى ما يريده من كافور ولم يصرح بما في نفسه إلا في هذه الأبيات التي يطلب فيها صراحة منه أن يوليه علي ولاية أو ضيعة فالمتنبي كان قد أخذ من سيف الدولة ما يكفيه من الأموال مما يجعله ليس بحاجة إليها ، فلما جاء إلي مصر كان يريد الجاه و السلطان وبدأ يشير إلي ذلك في أبياته ولم يقلها صريحة إلا في هذه الأبيات وهنا “تعريض بالاستبطاء وجعل مدحه إياه غناء يقول أنا كالمغنى في اطرابي إياك بالمدائح وأنت كالشارب تتلذذ سماع مدحي وتحرمني الشراب فهل في الكاس فضل اشربه يعني هل تعطيني شيئا “.
وأنشد المتنبي آخر قصيدة مدح بها كافور في سنة ثلاثمائة وتسعة وأربعين بعد أن انقطع عن إنشاده ستة عشر شهرًا وبعد أن مدح فاتك وبعد أن أنشد قصيدة الحمى التي ساء فيها إلي كافور ثم عاد إلي مدحه بناء علي طلب كافور منه ذلك فأحيا الأمل مرة أخرى لدى الشاعر، فعاد لكي يرمي آخر سهم في كنانته. وهذه القصيدة كانت آخر ما مدح بها المتنبي كافور ولم يلقه بعدها .