رسالة ذاتية إلى طفل في انتفاضة بعيدة.. في ذكرى اغتيال صلاح خلف (أبو إياد)
د. إيهاب بسيسو | فلسطين
عزيزي إيهاب في عام ١٩٨٩،
أكتب اليك في طفولتك التي تحاول أن تشق طريقها بين إطارات الانتفاضة المشتعلة وهدوء المكتبة المنزلية…
بعد قليل ستنهي مرحلة المدرسة الابتدائية وتستقبل المرحلة الإعدادية، وأنت تحمل إصابة برصاصة مطاطية في ساقك، هل تذكر ذلك اليوم؟ حين كنت تركض أمام مركبة عسكرية كسنجاب غير أنهم اصطادوك برصاصة فيما تحاول تسلق جدار أحد المنازل القريبة، لكنك واصلت الركض ونجوت بفضل سيدة احتضنت أنفاسك واضطرابك الطفولي …
بعد عامين أو أقل قليلاً سيبدأ هذا العالم في الاختلال مرة أخرى، كما اختل في حروب عالمية سابقة وفي حربي عام ١٩٤٨، و١٩٦٧ في فلسطين.
سينهار رأس لينين المعدني في ذلك التمثال الصغير الذي كان يحتفظ به والدك في البيت كهدية لم يسبق أن سألت ممن؟
ومع هذا الانهيار تصبح كتب دار التقدم أكثر انعزالاً في المكتبة المنزلية وكأنها تصارع من أجل بقاء يحرص والدك على أن يظل متزناً على الأرفف حين يدلك على قراءة أعمال جوركي ودستيوفسكي وتشيخوف …
ستبدأ في قراءة هذه الكتب لاحقاً وستكتشف ثراء ذلك العالم الأدبي، العابر حدود الجغرافيا والأزمنة وفي ذات الوقت ستقرأ “رجال في الشمس” لغسان كنفناني في مكتبة جمعية الشبان المسيحية في غزة …
ومنها سيأخذ هذا العالم المشحون بالرموز في الاتساع بين نادي غزة الرياضي والمكتبات العامة في المدينة والمكتبة المنزلية والطرقات المشتعلة والمسدودة أيضاً ببراميل الاسمنت …
سيغلق الاحتلال العديد من الشوارع بهذه الطريقة البشعة ومنها شارع مدرستك الإعدادية في تقاطعه مع شارع الثلاثيني في مدينة غزة …
كما سيغلق الاحتلال أيضاً مدرستك الإعدادية كعقاب على مواجهات شبه يومية بالحجارة بين الطلاب وجنود الاحتلال في المركبات العسكرية لكن سرعان ما ستستقبل مدرسة اليرموك الإعدادية أعداداً كثيرة منكم أنتم طلاب مدرسة الزيتون الإعدادية المغلقة، وسيصبح ما سيعرف لاحقاً باسم التعليم الشعبي سمة من سمات تلك المرحلة الملهمة في الذاكرة.
في تلك المرحلة أيضاً الممتدة بعد عام١٩٨٩ ستقرأ كتاب “فلسطيني بلا هوية” لصلاح خلف (أبو إياد) للمرة الأولى في طبعة قديمة شبه مهترئة ومع الكتاب ستبدأ الأسئلة في التحول تدريجياً من أسئلة طفل عفوية لأسئلة مراهق في زمن الانتفاضة يدخل مرحلة جديدة من الاكتشاف الحقيقي لمفردات الوقت …
ستتعرف على ماجد أبو شرار في “الخبز المر”، ومعين بسيسو في “المعركة” و”مارد من سنابل” و”دفاتر فلسطينية” وناجي العلي في شخصية حنظلة في اللوحات الفنية ومحمود درويش وعز الدين مناصرة وتوفيق زياد وسميح القاسم وعلي فودة في الكثير من القصائد وأغنيات مارسيل خليفة وأحمد قعبور وخالد الهبر …
سيمر الوقت سريعاً بعد عام ١٩٨٩ وستتعاقب المراحل السياسية لدرجة ستصيبك بالاندهاش والغضب والأمل وأنت تنتقل من عام إلى آخر محملاً بأحداث وطنية وشخصية ستصبح فيما بعد ذاكرة تساهم كثيراً في نحت ملامحك الشخصية:
منها مجزرة المسجد الأقصى عام ١٩٩٠ واغتيال أبو إياد في في كانون ثان عام ١٩٩١ وعاطف بسيسو في حزيران ١٩٩٢ ووفاة خالك يحيى بسيسو في نشرين أول من نفس العام وخالك أبو علي مهدي بعد أيام قليلة من توقيع اتفاق أوسلو في البيت الابيض في ١٣ أيلول ١٩٩٣.
مهدي بسيسو الذي لم تكن والدتك تكف عن سرد ذكريات زياراتها له في سجون الاحتلال على مدار سنوات طويلة قبل أن يُطلق سراحه في عملية تبادل الأسرى الشهيرة التي بموجبها قامت المقاومة الفلسطينية بتبادل الأسيرين مهدي بسيسو ووليام نصار بالجاسوسة أمينة المفتي التي اعتقلتها المقاومة الفلسطينية في بيروت.
عزيزي إيهاب في عام ١٩٨٩
وأنت تعد نفسك للانتقال نحو أعوام قادمة ستكون بمثابة محطات شخصية على طريق سفرك المتواصل بحثاً عن يابسة الحلم الجميل في خضم المسيرة والمتاهة، لا تفقد البوصلة مهما بدت المسارات مربكة ومرتبكة …
ستمضي بك التجربة من مجزرة الحرم الإبراهيمي في عام ١٩٩٤، إلى مجزرة قانا في لبنان عام ١٩٩٦ وكذلك انتفاضة النفق عام ١٩٩٦ واستشهاد صديقك الصدوق إيهاب عبد الواحد في أيلول ١٩٩٦ قبل اندلاع انتفاضة الأقصى في عام ٢٠٠٠ وما سيتلو ذلك من أحداث محلية وعالمية.
تذكر البدايات النقية في كل شيء، تذكر وجوه أصدقائك الشهداء، الإصرار الخفي في التمسك بكلمات الحرية على جدران المدينة، الممهورة بتوقيع الانتفاضة الشعبية، توهج المعنى في كل يوم كان يصنع وطناً من أبسط الأدوات الممكنة كما كانت نساء البلاد يقمن بخياطة العلم الوطني سراً في البيوت كي يعلو ويسمو في اليوم التالي في المظاهرات …
تذكر تلك الروح التي صنعت جسراً بين المنفى والوطن والمخيم، تلك المفردات العفوية التي صنعت جسراً للحياة والصمود اليومي …
جسر لأخبار الوطن المحتل، وأخبار المنفى المتصل بالبلاد عبر نبض الانتفاضة الذي يزداد بلاغة في المخيم …
لست بحاجة لأن أذكرك بأن تحافظ على كل تلك التفاصيل والصور والأسماء في ذاكرتك قدر ما تستطيع، يوماً ما بعد عام ١٩٨٩ ستعبر الكثير من المدن حيز تجربتك الشخصية وستواصل اكتشاف آفاق فلسطين في التاريخ والصورة والأدب مع القراءة للكثيرين كجبرا إبراهيم جبرا وتوفيق ويوسف وأنيس صايغ وراشد حسين وسالم جبران وعارف العارف والدباغ وبطاطو وإدوارد سعيد، وهشام شرابي وخالد الحسن (أبو السعيد) وغيرهم العديد من الأسماء المتوهجة كعلامات بارزة، لتكتشف عقولاً وطنية ومدارس فكرية تلتقي فيها العديد من التوجهات الوطنية والسياسية، التي ستساهم في تعزيز مسار البوصلة في رأسك.
اليوم ومن على مقعد في مقهى شبه مزدحم بصرير أبواب معدنية غامضة وهراوات مختبئة في الجدران، بعد كل تلك السنوات الطويلة من قلق واغتراب ومحاولات غير مكتملة من الوصول إلى اليابسة …
لن أطلب منك شيئاً إضافياً سوى أن تواصل ما بدأت، واصل القراءة كصوت من حياة وذاكرة في مواجهة الصمت، لا تكف عن قراءة تصنع من الوقت مفردات حرية قادمة كي يظل المسار واضحاً والطريق غير ملبد بالضباب أو العتمة …