صنيع من فقه في الأدب

 

طاهر العلواني | مصر

نمَّقتْ يدُ الأخ الأديب والأستاذ الصمصام محمد بركات رسالةً  من أبلغ الرسالات، صعد فيها وصوّب، وشرّقَ وغرّب، وخطّ بها الأثال كأنه الأثال، تطير بها الركبان من الدراهم إلى الأدم، فما تجد من أريجها أشابَة، ولا لعبيرها نظمًا تشابَه، ولا انقضاءً لاستغراقها إدآب ذهنه الوقّاد في طرائق الاجتهاد، فما زال يلفظ للغواصين دُرَّه، وينفث فيها سحرَه، وقد عجم حروفها فرائد، ودافها الواحد فالواحد، ثم اصطفى إبريزها وزبرجها، ونفى زيفها وبهرجها، نفيَ الدراهم تنقاد الصياريف، ثم ألّف بينها أحسن التأليف، ورصَّفَ معانيها أبلغ الترصيف، فلا يزال بديع تصرفها واشتقاقها ينادي ببهيّ تلاؤمها واتفاقها، وهذا صنيع من فقه في الأدب وطبّ، ومارسه مذ شبّ إلى أن دب. وهذه الرسالة شاهد عدل على حسن تصرفه في صنعة الأدب وفنونه، فليس الشبُّ كالزبرجد، وإن جمعهما الحجر. ولولا قصور الباع لزففتها إليه في زينتها تسرّ النواظر، وأفرغتها في قالب يروق القلوب والخواطر.

ثم إنه قد فتح بها لفرسي مجالا دونه مصاكّ الرُكب ومزالّ الأقدام، فإن المجادلة أشد من المجالدة، والمقاوَلة أخطر من المقاتَلة، فلا مفر من أن تغمر رسالتي الجداول إلى البحر، وأن تبز الكهنة في السحر، غير أني اكتفيت بصيانتها عن الأدناس، ورفلتها في ثوب جنس من الأدب لا يقال معه: أفسد صاحبها ولم يُحسن رد البلاغة بها، ولزم الصناعة وهو ليس من أربابها؛ فإن شكر المحسن ضربة لازب.

وجِماعُ الأمر ومِلاكه ما ذكرتَه – أيدك الله- أن السابق إذا شرح بابتدائه الصدور وأبهجها، وألجم خيل المعاني وأسرجها، حتى تبسم فجرها في شرقه، وانتصبت أعلام الألفاظ في أفقه، كانت كما قال الأول:

وكأنها عند انبساط شعاعها    تبر يذوب على فروع المشرق.

ولقد نظرت في لزوميات شيخ المعرة، فرأيت المثال كتنفس الأسحار، وعلى ما ذكرتَ من المنوال، فأبو القاسم في كشافه افتتح فنا لم يصنف قبله، نثر فيه الزمرد على الدر والياقوت، وجلّاه للناس في رفرف خضر وعبقري حسان، حتى تحاسدت الألفاظ في السبق إلى لسانه، وتغايرت المعاني من سبق الوقوع في خاطره، فجاء كما قال الآخَر:

بساط زمرد نثرت عليه       دنانيرٌ تخالطها دراهم.

ثم إن من جاء بعده ونسج على منواله – وإن كانوا الفرسان في ميدانه، وإن مخضوا البيان وعجموا من عيدانه- انطوت كتبهم على نقص وكمال، ولا يزال النقص يزيد والكمال ينقص إلى يوم القيامة، غير أنهم لم يحيدوا عن المراد من التأليف، أما من جاء بعد الحريري، فلم يبلغ مد أبي محمد ولا نصيفه، وإذا تأملت مقامات الزمخشري وجدته لم يراعِ كثيرا مما التزمه القاسم، إلا السجع ووحدة النص الأدبي، ولكن فصاحة الزمخشري ربما غطّت شيئا من ذلك، ويبقى الحريري وقبله بديع الزمان.

فقد استبان أن ههنا أمرين: القصة المبنية عليها المقامة، والسجع المطبوع أو ما يقاربه، مع فصاحة وبلاغة قل أن يجتمعا لأحد، فأما القصة فإن المعاني – كما قال أبو عثمان – مطروحة في الطريق، فلا سبيل إلى إغلاقها، وأما السجع، فإن الناس اليوم لا يراعون من المقامة غيره، ثم إنهم لا يسجعون إلا كما قال الرماني: كأنك أدأبت نفسك في صنع قلادة ثم ألبستها كلبا، وهذه حال من راعى السجع على حق المعنى أو النظم، وأما الفصاحة، فإنها لمن قويت ملكته وتمكن كأنه أوحي بالفصاحة إلى صدره، وحُبست البلاغة على طبعه.

وقد وجدتُ أكثر الناس لا يحسنون صنعا في شيء من ذلك إلا منسوجا على منوال غيرهم، اللهم إلا المعنى، والمقاماتِ فيها خواطر كالبرق أو أشد لمعا، تتزاحم عليها المعاني،  فلا تنالها حُبسة، ولا تعتورها لكنة، ولا تُسلَّط عليها عجمة، ولا تعترضها عقدة.

وهذا يكاد يكون مفقودا في زماننا. وميادين الأدب واسعة لمن سالَمه البيان وساعَده الجد. على أني لا أغلق الباب لمن أخذ بالنصيب الأعلى من الشروط المذكورة، إلا أنها عزيزة في هذا الزمان، لافتقارها إلى تلك الحصَّة مما ذُكر، والقسط الأوفر مما تبيَّنَ. والله سبحانه هو المسئول أن تقع منك موقع الفرات من الحرّان، وأن تنزل من القارئ منزلة السداد من الحيران؛ إنه أكرم مسئول، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى