تركيا وإسرائيل، من لم يفهم بعد، فلا يحاول من جديد
خالد جمعة | فلسطين
في عام 2010 التقيت في بروكسل بمغنية بلجيكية من الحزب الشيوعي البلجيكي، كانت قد حجزت مكانها على ظهر السفينة مرمرة لكي تحضر لكسر الحصار على قطاع غزة، وحين ذَهَبَتْ إلى موعد المغادرة، سحبت حقائبها وعادت إلى بلجيكا مفضلة التنازل عن المبلغ الذي دفعته، وحين سألتها عن السبب، قالت بوضوح إن النقاشات التي كانت دائرة هناك، لم تكن معنية بغزة على الإطلاق، بل كانت كلها تبحث عن الصورة الأفضل للضغط على أوروبا لكي ترى ما يمكن لتركيا أن تفعله إذا لم تأخذها أوروبا بجدية.
لن أقوم باستعراض التاريخ التركي القمعي، منذ تأسيس دولة العثمانيين على يد عثمان أرطغرل [1258-1324]، مرورا بجميع السفاحين الذين يتفاخر بهم التاريخ التركي، ولن أتطرق إلى مذبحة الأرمن الشهيرة، فهذا كله يمكن لأي دارس للتاريخ التحقق منه، كما يمكن التحقق من أول قنبلة جرثومية ألقيت عبر التاريخ، عندما قام الأتراك بإلقاء رجل مصاب بالطاعون بواسطة المنجنيق على مدينة حاصروها ولم يتمكنوا من فتحها، لكن ما أريد الوصول إليه هو أن تركيا، مثل أي بلد في العالم، تبحث عن مصالحها، فلا أخلاق ولا مبادئ في السياسة، ولا تريد أن يتم التعامل معها كدولة من دول الشرق الأوسط [المتخلفة]، لأنها منذ نشأتها تعتبر العرق التركي أعلى شأناً من بقية البلدان المحيطة.
ما سعت إليه تركيا على ساحة الشرق الأوسط من التدخل في شؤون البلاد المحيطة، إلى تعويم المسألة الكردية ودفع العالم للتعامل مع الأكراد كإرهابيين يقضون مضجع الدولة التركية، وفي نفس الوقت دعم الأكراد حين يهبون في بلاد أخرى، كل هذا بات واضحاً من خلال بنود الاتفاق الذي عقدته تركيا مع إسرائيل، والذي باعت من خلاله في طرفة عين جميع الشعارات التي رفعها رجب طيب أردوغان قبل وبعد انتخابه الأول، والعقبى عند من لم يفهم بعد.
أما البنود الثمانية التي أقرها الاتفاق بين إسرائيل وتركيا ذات يوم فهي: أولاً: إسرائيل وتركيا تعودان لعلاقات التطبيع الكامل، بما في ذلك تبادل السفراء والزيارات المتبادلة، والتعهد بأن لا تعمل دولة ضد الأخرى في المنظمات الدولية، كحلف شمال الأطلسي (الناتو) والأمم المتحدة، ثانياً: يتراجع الأتراك عن مطلبهم رفع الحصار عن قطاع غزة، ولكن إسرائيل توافق على تمكين تركيا من إرسال كل عتاد ومساعدة إنسانية تريدها إلى قطاع غزة عبر ميناء أسدود تحت الرقابة الأمنية الإسرائيلية. كما تسمح إسرائيل للأتراك بإنشاء محطة للطاقة في غزة، ومنشأة لتحلية المياه بالاشتراك مع ألمانيا وكذلك بناء مستشفى، ثالثاً: لا يتضمن الاتفاق أي بند يتعلق بإعادة [أبرا منجيستو وجثماني أورون شاؤول وهدار غولدن]، ولكن الأتراك وعدوا باستخدام كل علاقاتهم مع “حماس” لإقناع التنظيم بإعادة الجثث. كما أعرب الأتراك عن استعدادهم للتوسط بين الطرفين، رابعاً: ستدفع إسرائيل 21 مليون دولار لصندوق إنساني تركي سيقدم تعويضات لعائلات ضحايا سفينة “مرمرة”، خامساً: ستلغي تركيا كل الدعاوى ضد ضباط الجيش الإسرائيلي الجارية في المحاكم في اسطنبول جراء مسؤوليتهم عن اقتحام سفينة “مرمرة”، سادساً: تتعهد تركيا بأن لا تعمل “حماس” ضد إسرائيل من الأراضي التركية، وتراجعت إسرائيل عن مطلبها إبعاد قيادة الحركة عن الأراضي التركية. مع ذلك، فإن القيادي في “حماس” صالح العاروري، المتهم بالمسؤولية عن اختطاف ومقتل إيال يفراح، غيلعاد شاعر ونفتالي فرانكلين في “غوش عتصيون”، لم يعد يتواجد في تركيا، وتعهد الأتراك بأنه لن يعود ثانية إلى أراضيهم، سابعاً: الدولتان تعودان للتعاون الأمني والاستخباري، ثامناً: إسرائيل وتركيا ستشرعان باتصالات رسمية من أجل إنشاء أنبوب للغاز من حقول الغاز الإسرائيلية. وتعرب تركيا عن اهتمامها بشراء الغاز من إسرائيل وبيعه في الأسواق الأوروبية.
لا علاقة لي بما وضعته تركيا في دستورها في البند الأول، كونها دولة علمانية، فالدول لا تقاس بما يوضع في دساتيرها، بل بسلوكها السياسي بالدرجة الأولى… فأن تسب الاحتلال في خطاباتك، وتقيم معه في ذات الوقت علاقات دبلوماسية واقتصادية وأمنية وعسكرية، وتستورد منه ما قيمته 5 مليارات دولار سنوياً على سبيل المثال، فهذا شأن تركي خالص، المهم في المسألة ليس هذا، المهم هو أن هناك من لا يزال يعتقد بأن الموقف التركي الرسمي داعم للقضية الفلسطينية، نعم إنه داعم لنا في خطاباته، أما على الأرض…
من لم يفهم بعد، فعليه ألا يحاول من جديد..