الشعر الآن،  وغداً.. مساهمة في الجواب عن سؤال: ما جدوى الشعر؟

مصطفى لفطيمي | المغرب

يبدو اننا نمضي في طريق ” نحت ” مصطلح جديد هو مصطلحُ ” الكَوْرَنَة ” قياساً و انسجاماً مع مصطلحاتٍ منحوتةٍ سابقة على هذا الوزن . و لربما ستصير” الكَوْرنة ” بعد هذا المقال مصطلحا يكتب عنه العلماء ، و يتحدث عنه الأدباء، مثلما كتبوا عن مصطلحات  الأَوْرَبَة ، والأٌمْرَكَة ، والعَوْلَمة .  ومثلما تحدثوا أيضا عن العصرنة ، والحداثة ، والعالمية…

الآن.. ما الذي ستغيره هذه الجائحة فينا ؟ و ما الذي ستغيره في الذائقة الشعرية بشكل خاص ؟

في تاريخ الشعر الإنساني كتب الشعراء عن الأوبئة منذ اول تفش معروف عام 430 قبل الميلاد إبان الحروب البيلوبونيسية بين حلفاء ” أثينا “و حلفاء” إسبرطة ” . و لزمن طويل جدا كان الوباء أو الطاعون حاضرا في الكتابات الأدبية ، و الشعرية تحديداً حيث تناولت قصصا انسانية عن الموت ، و عن الناجبن من جحيمه . و لست هنا لاستحضر كل هذا التاريخ الممتد الطويل للحديث عن الوباء وكيف تناولته الكتابات الأدبية الشعرية ، فقط استحضر أن  شعراء هلكهم الطاعون بعد أن كتبوا عنه .

و في الثقافة الشعرية العربية يحضر الوباء ويتقاطع مع الكتابة الشعرية في أكثر من سياق تاريخي ، فقد صار الألم لحظة ملهمة في مخيلة كثير من الشعراء . و المتنبي في العصر العباسي من هؤلاء الشعراء عندما كتب ابياتاً عن الحمى التي تفشت وباءً في مصر و سماها “زائرة الليل ” تصيب الناس في المساء ،  و التي لم يسلم بدوره منها :

و زائرتي كأن بها حياءٌ       فليس تزور إلا في الظلام

و في التاريخ الشعري القريب دشنت الشاعرة العراقية نازك الملائكة سنة 1947 شكلا شعريا جديدا بقصيدة عن وباء الكوليرا الذى تفشى في مصر أيضا ، و هي مصادفة شعرية جميلة جمعت بين المتنبي و نازك الملائكة رغم التباعد التاريخي .

و أنا اذكر نازك أستحضر مقطعا من قصيدتها “الكوليرا” :

الكوليرا

في كهف الرعب مع الأشلاءْ

في صمت الأبد القاسي حيث الموت دواء

أستيقظ داء الكوليرا

حقدا يتدفق موتورا .

يبدو الآن ، أننا نسير في اتجاه القطع مع شعر و التقاطع مع شعر آخر: ما قبل كورونا و ما بعدها ، و إن كان لا يعجبني هذا التوصيف أننا نسير للقطيعة مع شعر و التقاطع مع شعر آخر منذ تفشي الوباء ” الصيني” مع الاعتذار – طبعا-  فما جدوى الشعر الآن وغدا ؟

ما جدوى الشعر الآن.. سؤال في نظري لا يستقيم طرحه إلا مع طرح أسئلة آخرى : هل نحن أمام زمن آخر للشعر ؟ فأي شعر يصلح لهذا الزمن ، زمن الشعر و الوباء ؟ أي شعر يصلح لنا في هذه اللحظة التاريخية المفصلية ، و يصالحنا مع الاستعارة ، و المجاز  ، و الكناية ، ثم يعود بنا إلى الشعر ، إلى زمن الشعر الجميل .

باختصار ، ما الشعر الذي نريد ما بعد الكَوْرَنةِ- مع الأعتذار مرة أخرى- ؟

ما جدوى الشعر الآن : جدواه أن نكتب و نقرأ ، فهل يمكن أن نكتب بدون أن نقرأ ؟ هل يمكن أن نقرأ و نكتب بدون أن نفكر في النص أو بالأحرى بدون أن نفكر في لذة النص بفهومه البارتي ( نسبة إلى رولان بارت) حيث تصير القراءة فعلاً ، و الكتابة ردة فعل : تصير القراءة كفايةً و الكتابة انجازاً ..

فيما يخصني فأنا أكتب بهذه الأصابع الطويلة التي أقضمها كلما استعصى المعنى وترنحت العبارة ، فقد كتبت نصا اخترت له عنوانا مشتقا من الجائحة نفسها : كورونيا أود أن اتقاسمه مع القراء من جديد :

 

كورونيا..

ها أنا أفرك عينيٌّ هاتين .

أفركهما هكذا ، بالسَّبَّابةِ وحدها

كي أرى كل شيءٍ :

أرى جِباهَ الموتى و هي تلمعُ من كثرة السجودْ .

و خفافيشَ الليلِ الهاربةَ

تضعُ تيجاناً من قُشٍّ

و حجرْ ،

و هي تعبرُ فوق خط الزلازلِ ،

ثم تعبرُ في كل اتجاهْ .

 

ها أنا أسير خلف النعوشِ .

و في نيتي أن أجر العاصفةَ

في عربة الموتى .

 

وحدها القططُ في الشوارعِ

تحرُسُ الأشجارَ ،

و المقاهي ،

و حاوياتِ البَوْلْ .

 

هكذا يسير الموتُ من بَحرٍ إلى بحر

فتنشقُّ الجِبالُ ،

و الأنهارُ ،

و البحيراتْ .

 

هكذا تموتُ اللغةُ ،

و نخسر أصابعنا التي كنا نقْضِمُها

– على مهلٍ –

 

أنا أيضا ،

سوف أدسُّ الرمادَ في جيبي

و أنثرُهُ في كل زاوية من هذه اليابسةِ .

 

ربما ،

سوف لن أرى جباهَ الموتى ،

و لا خفافيشَ الليلْ .

 

                            

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى