من باسمين إلى عابسين
توفيق أبو شومر | فلسطين
بعيدا عن سيل أخبار المعارك والاحتجاجات في وسط التسمية المُضلِّلة؛ (الربيع العربي) قررتُ أن أسترجع تراثنا العربي المملوء بالابتسام والضحك، حيث نجح العربُ في تحويل حروفهم المكتوبة والمقروءة إلى طرائف مسلية، وبسماتٍ وضحكات.
تُعتبر الكتابةُ عن الطرائف والنوادر والحكايا من أروع الكتب وأكثرها انتشارا، وقد أدركتُ أممٌ كثيرة فائدةَ هذه الكتب فقامتُ بترجمتها إلى لغاتها، لأنها تزيد من رصيد الخيال عند الأبناء مما يدفعهم إلى الابتكار والاختراع!
ويعتبر التراثُ العربيُ هو الأغنى في هذا المجال، وبخاصة في كتاب ألف ليلة وليلة، الكتاب الذي ترجمه الفرنسيون إلى لغتهم ولغات العالم الأخرى لأهميته في إنعاش وإثارة العواطف والخيال، وكذلك كتاب كليلة ودمنه والمستطرف والأغاني والجاحظ وغيرها من آلاف الكتب الجميلة.
أما نحن فقد حاصرْنا خيالاتٍِنا منذ قرون ثم قمنا بقتل الخيال بجيشِ من الرقباء الجاهلين المنتفعين من الجهالات، ولم نسمح إلا بكتبٍ صماءَ، ومحفوظاتٍ بكماء، فاختلتْ مقاييسُنا، وصارتُ الفضيلةُ عندنا تعني تجنُّبَ الترفيه وكثرةَ الضحك لأن الترويحَ عن النفس يجلبُ التوازنَ النفسي، ويُضاعف النشاط والعمل.
واختفتْ الموسيقى والفنون الجميلة بأشكالها وأنواعها في كثيرٍ من التجمعات العربية، وتجمَّدتْ عواطفُنا، وتكشَّرتْ جباهُنا، وتحولنا من مخلوقاتٍ باسمةٍ إلى كائناتٍ عابسة غاضبة، وأكبرُ المؤشرات الصادقة لقياس لنسبةِ العبوس في بلادنا، أننا لا ننجح في تنفيذ برنامج(الكاميرا الخفية) ، لأن إعداد برنامج ناجح للكاميرا الخفية في معظم بلاد العرب على شاكلة البرامج الأوروبية، يستدعي حروبا ومعارك قبلية بين منتجي البرنامج وبين ضحاياهم من العابسين، وهذا بالطبع يشير إلى أننا تحولنا من باسمين آملين فرحين حالمين إلى عابسين قانطين يائسين!
لقد أدرك العربُ منذ فجر تاريخهم فائدة الضحك والابتسام، وحسبي أن أقتطف بعض طرائف العرب التي أسهمتْ في إنتاج الإنسان العربي المتوازن فكريا وعاطفيا في عصور النهضة والازدهار، مما أهَّلهُ ليتصدر العالمَ في الإبداع والحضارة قرونا طويلة!
ومما أنتجه العربُ في مجال الضحكات عن البخلاء:
” أرادَ أصدقاءُ أحدِ البخلاء أن يُشفوا بخيلا من مرضِ الحُمَّى، فطلبوا نصيحة أحدهم، فقال لهم:
زوروه في بيته، وأكثروا من الأكل من طعامه، فإنه [يعرق] وتزول الحُمَّى بالعرق!”
وقال شاعرٌ آخرُ يصفُ رجلا بخيلا جدا، لدرجة أن يده مغلولةٌٌ مقبوضةٌ دائما في صورة كاريكاتيرية بديعة، فهو من شدة بخله إذا أطبق يده على بذور الخردل الصغيرة التي تشبه السمسم، وكان في وسط البحر الهائج في ليلة مظلمة باردة، فإنه لن يفتح يده أبدا، فهو يضحي بحياته ولا يُضحي بقبضة من بهار الخردل الذي يجعل الطعام شهيا:
لو عبرَ البحرَ أمواجُهِ…. في ليلةٍ مظلمة باردة
وكفُّهُ مملوءةٌ خردلا…. ما سقطتُ من كفِّه واحدة !
أما الشاعرُ الفَكِِهُ( أبو الشمقمق) فقد وصف أحد البخلاء ببيتين فيهما من الإبداع ما يفوق الخيال، وهو في بيتيه يتفوق على أشهر أبيات الهجاء في الأدب العربي، وهي أبيات الحطيئة حين قال:
قومٌ إذا أكلوا أخفَوْا كلامهمُ.
واستوثقوا من رتاج البابِ والدارِ
قوم إذا استنبحَ الأضيافُ كلبَهمُ
قالوا لأمِّهمِِ بُولِي على النارِ
فتمنعُ البولَ شُحَّا أن تجود به
فلا تبولُ لهم إلا بمقدار!!
أما بيتا أبي الشمقمق فهما:
ما كنتُ أعرفُ أنَّ الخبزَ فاكهةٌ
حتى حللتُ بأرضِ ابن منصورِِ
الحابسِ الروثَ في أعفاجِ بغلته
خوفا على الحَبَِ من لقطِ العصافيرِ
وشرح كلمة أعفاج تعني أمعاء البغلة!