المرأة وانتزاع جسدها في رواية: قيامة بغداد للكاتبة عالية طالب
د. موج يوسف | ناقدة وأكاديمية عراقية
قيامة بغداد العتبة الأولى قبل القيامة الكبرى، فهذه المدينة كانت ومازالت تعيشُ متأهبةً للموت، والخراب على يد ابنائها العاصين، والغرباء المقتحمين، وهذا ما كشفت عنه الكاتبة عالية طالب في روية قيامة الصادرة عن دار أور بطبعتها الثانية. وقد صرحت الكاتبة بأنها رواية (تسجيل توثيقي) لما حدث لبغداد عند دخول التتار الجدد كما وصفتهم، وسجلتْ فيها أهم الأحداث التي ستظّل تنزف في ذاكرة العراق. بطلة الرواية الكاتبة نفسها، والسرد بضمير المتكلم أنا والراوي العليم . أما الزمن فمن 2003 عند إحتلال بغداد حتى عام 2007 مع الحرب الطائفية وتعود عبر تقنية الاسترجاع الزمني إلى حرب الثمانينيات وحصار التسعينيات، وأما المكان فكانت بغداد مسرح الأحداث التي صُلبت فيها الأجساد، سيما النساء اللواتي صارت كلّ واحدة منهن يسوع الفداء . والسائل عن حبكة الرواية أقول: إنَّ كلَّ حدث فيها هو حبكة !! .
ولأنَّ البطلة امرأة فهذا يفتح للقارئ نفقاً من التساؤلات التي كانت معتمة عنده، هل تسللّت الكاتبة إلى دواخل نسائها في الرواية؟ ورفعت الخمار عنهن؟ ما رؤية الكاتبة لباقي النساء كونها امرأة شاهدة لما طرأ على مجتمعها؟ وهل رفعتْ الصوت الداخلي والحشرجة المكتومة في صدرهن؟ ولما قلقت المرأة من جسدها ؟ تطول قائمة التساؤلات . ا
لمجرمون منقسمون إلى: محتل مغتصب، وفكر متطرف، عزل المرأة عن المجتمع منذ التحولات الاجتماعية الأولى وكانت الكاتبةُ واعية بهذا التحول بعدما كانت المرأة تتنفس شيئاً من الحرية بدأت تحرم منها، إذ تقول في لحظة خروجها إلى العمل وهي تقود السيارة بشواع بغداد التي يتجول فيها الموت: ” صرخ الرجل الذي تزاحمت معه قائلاً: أين تذهبين بسيارتك ألا تخافين هذه الطرق؟ رمقته بنظرة كنت شبه حائرة، ما جعله يفسح المجال لي لأمر قبله، وتوالت التعليقات التي سمعتها من السيارات التي كنت أتوسطها بفعل تراكم توقفنا إنهن نساء غريبات يخرجن وهن غير محجبات، يقدن سيارات ولا يخجلن كيف تخرج امرأة لوحدها ونحن لا نأمن على أنفسنا لذلك انهن يستحقن كل ما يجري لهن ” ص 74 حوار الشخصيات يشير إلى ما سيعول عليه المجتمع الجديد، وكيف سيصبح شكل مدينة بغداد التي هربت منها مدنيتها، والنصّ البذرة الأولى من التحول الاجتماعي، وأوله قمع للمرأة رفضها، ومنعها من ممارسة حياتها الطبيعية (نزع الحجاب قيادة السيارات) بداية لإقصاء المرأة منهما في ظّل ديمقراطية إدّعائية ترامت أحجارها على النساء. والحوار السابق صورةٌ ترجمةٌ عن أفكار الجماعة والتي صارت تعذب المرأة أن تمّ خدش جسدها رغماً عنها !
ولعل أخطر ما يمكن أن تقع النساء به هو مشرحة التميّز الجنسي الذي يتاجر بحياتهن ، وهذا مارصده الروائية في عملية الخطف التي انتشرت ببغداد بتلك المرحلة ، والجسد المهان كان سبباً في القضاء على روحها فتقول: ” أما الفتيات فقد كان ظلمهن أشد ، تكتمت العائلات التي خطفت بناتهن عن الإعلان عن الحادثة، تجنباً للعار مما جعل الخاطفون ينفذون تهديدهم، تقتل المخطوفة بعد أن تتعرض للإغتصاب، سبب عدم اعمال الأهل صفقة المقايضة بالأموال ، لم يكن من السهل على أي عائلة تقول أن ابنتها خطفت بعكس الشاب الذي تبدأ الأسر بجمع الأموال لاسترداده وإذ ما حصل وأطلق المخطوفة فإن العائلة لا تذكر للشرطة ولا لمن حولها أنها كانت مخطوفة أصلاً .
بل إن بعض العائلات من الأصول الريفية كانت تقتل بناتها بعد رجوعهن من الخطف لأنهن تعرضن لإغتصاب وذاك عار لا تتحمله العائلة” ص 104 .النصّ يمثل رؤيا العالم الفكرية والعاطفية نحو المرأة فالتميّز الجنسي أساسه الجسد ، فالفارق بين الجنسين هو الأعضاء التناسلية فلماذا يحاسب المجتمع أن تمّ التعدي على عضو المرأة دون الرجل ؟ جهل الجماعة البشرية بالجسد جعلها تميّز بينهما، فيظهر جسد المرأة (مقدساً منبوذا) !! فما أن تمّ تعرضه لعارض الا وتخلصوا منه وهذا ما لاحظناه في النص السابق، فجسد الرجل حتى وأن أهين لا يضرهم شيئاً، لكن مع المرأة تكون عاراً في جبين أهلها، فيظهر العنف المضاعف الذي تعرضت إليه المرأة في المجتمع الجديد والذي انتزع منها جسدها عنوةً ، ومع اشتعال وقود الطائفية أنزوت المرأة ” التي تسير بلا حجاب تقتل، ومن تتزين وتقود السيارة ” ص 88 .كلّما أُلغيت هويّتها، وتحكموا بجسدها ، وأطفأت أنوار عقلها يفقد المجتمع ركنه الأهم المرأة، ووعيه، ومدنيته، فتكثر الحروب والصراعات وجهل وهذا ما أرادوه التتار الجدد بأسلمة المجتمع .
وقد عاشتْ المرأة من عصور بقلق الجسد؛ كونها تجهل جسدها وهذه أخطر مشكلة تعاني منها سيما في الحروب، وقد كشفت الكاتبة عالية عن ذلك بقولها: ” أغلب النساء يلبسن البيجامات والبنطلونات ليلاً حتى يجنبن أجسادهن؛ كما يعتقدن أن تكون عرضة للمتفرجين فيما لو وقعت البيوت وتناثرت بفعل الصواريخ .. وبقي الاستحمام فكرة لا تقبل الإبطاء أبداً تدخل المرأة لتستحم وهي قلقة من أن تكون قد أخذت وقتاً طويلاً ، تسرع بكل شيء حتى لا تموت وهي عارية ..
هذا الخوف قلب حياة المرأة العراقية وأصبحت تعتقد أن وجودها سيجلب اللعنة لعائلتها” ص120 . الكاتبة تشكف عن مشكلات تعيشها المرأة، أوّلها: جهلها بجسدها وقيمته، والإبتعاد عن محاولة التعرّف عليه، فنشأت بقلق منه وهذه ثاني مشكلة القلق من جسدها أنه عارٌ .
والنص السابق يكشف عن رؤية المرأة للمرأة بمعنى أن الكاتبة كانت رؤيتها بالضد من هذا الاعتقاد الخاطئ الذي تفكر به نساء مجتمعها، بإنَّ أجسادهن عار عليهن، فاوردت الفعل (يعتقدن، تعتقد) لتدحض الاعتقادات الخاطئة عند النساء. الرواية مكشافة عن هواجس نساء الحروب ، والتحولات الاجتماعية ، والسياسية ، والثقافية لم تخلُ من التحليل لأكثر الأحداث على مدى خمسة سنوات من 2003 ــــ 2007 فقد العراق الكثير من قيمه .