دَمْعَةُ النِّمْر

عبد الناصر صالح | فلسطين

 لا بُدَّ مِن لُغَةٍ لأَجْمعَ ما تَناثَرَ من دَمي

وأُزيلَ رائحَةَ الصَّدى عن قَلْبِ عاشِقَتي

وأَسْقيَ نارَها..

لـمْ يَبْقَ من مَوْجٍ لأَحْبُوَ فيهِ

كي أَرِثَ الطُّفولَةَ

خانَني دَمعي/

وأَلْقَتْني الظِّلالُ على الحَصى

ثَمِلاً كفُخّارٍ تَعثَّرَ في حَماقَتِهِ ،

تَصَدّعَتِ المروجُ ونَخْلُها العالي

يُناغي غَيْمةً حارَ المساءُ بِها

فما ذَنْبُ الفَراشِ إذا مَضى

مُتَسَرْبِلاً بِدُموعهِ ؟

لا بُدَّ مِن لُغَةٍ لأَسْتُرَ عَوْرَتي

في نَشْوةِ الإِبْحارِ

أَهْوي مثلَ ظِلِّ غَمامةٍ في الرّيحِ

يُنْقِذني المَجازُ ولَوْعةُ الإيحاءِ

هَبْ لي فِكْرَتي يا بَحرُ

قد خَسِرَتْ خُيولي في السِّباقِ

وأَوْغَلَتْ في غِيّها أَفْعى الخُرافَـةِ

تَقْتَفي أَثَري وَترْقُبُني /

 كريحِ اللَّعْنةِ الحَمْقاءِ

تَرْقُبُني

لِتَغْرُسَ سهمَها الـمَسمومَ في رِئَتي

فَهَبْ لي فِكْرَتي

أَتَسلّقُ الأَسوارَ والقَيْدَ الأَصَمَّ

فَتَزْدَهي بِفراشِها ،حُلَلاً، أقانيمُ الكِتابَةِ

أَصْطَفي لحَنَ الوَضاءةِ

يَخْتَفي الحرجُ القَديمُ على صهيلِ الرّيحِ

هَبْ لي فِكرَتي

لأُعانِقَ الأُخْدودَ ظَمآناً يُحاكي الشَّمْسَ

أَزْرَعُ في جَدائِلِها بُذورَ الوَصْلِ

أَسْبحُ في غِوايَتِها

وأمضي نَوْرَساً ظَمِئاً يُفتّشُ عن عُيون الماءِ

يَسْقي غَرْسَ مَن جاعوا

وَمَن صُلِبوا على حدِّ الغيابِ

هناكَ مملكةٌ

وبحرٌ ضاحكٌ لبراءةِ الأَطْفالِ

أَحْلامٌ مُجَنِّحةٌ

وأَعْنابٌ

وفاكهةٌ

يُضيءُ فنارَها العُشّاقُ..

لا سقفٌ لذاكرتي وغَرْسِ قَصيدتي

لكأنَّها مُتَنفّسُ الفُقراءِ

مُفْتَتَحُ الحروفِ لمن تحدّوْا صمتهَم

منْ أوّل الفصلِ الـمُهينِ إلى نهايتِهِ العقيمةِ

هل يضيعُ الوقت في الّلا شيء 

كم عَبَرتْ خيولٌ وانقضَتْ سِيَرٌ

كزلزالٍ يَرُجُّ الأرضَ

وانْكَفَأَتْ على أعقابِها !

سَأَهزُّ أَشْجاري

لِتُسقطَ مِنْ حِجارةِ ضوئِها ما أَشْتَهي

تَرتدُّ أسئلةُ الفراغِ

ولا كلامَ سوى الأَنينِ

أَفَقْتُ

يَصْفَعني الغبارُ

هَجيرُهُ الدّامي يُلاحِقُني

يُغَرّرُ بي

وَيِحْصُدُ وَقْعَ أَنْفاسي

بِمِنْجَلِ حِقْدهِ الموْبوءِ

كمْ عَبَرتْ خيولٌ..وارتَقَتْ بصهيلِ بهجَتِها

لَكَأنَّ نافِذَتي تُطِلُّ على حُطامٍ

يَبْعَثُ المغمورَ تحتَ السَّطحِ

يَنْتَعِلُ الكآبةَ

حينَ يُبْصِرُ ظلَّهُ المحبوسَ

أجْداثاً من الإسمنتِ

تُمْعنُ في تَشَتُّتها

فهل أرِثُ الطُّفولةَ

أم أسيرُ مُكَمَّمَ الذِّكرى ؟

أُرَتّلُ أغنياتِ البَحْرِ والغاباتِ

في زَمَنِ السُّكوتِ المرِّ

تَذْوي وَحشةُ القَمَرِ الكئيبِ

ترشُّ فوق الرَّملِ من شَذَراتِها

تَعويذةً تَطوي شظايا العمرِ

في لُغَةِ الثَّراء البكْرِ

تَسْتَعْصي على النِّسيانِ/

أَصْرَخُ يا ظَهيري

جُرْحُنا مُسْتَنقَعُ الخَيْباتِ

مُفْتَعلٌ

ومُبْتَذَلٌ

يُصارِعُ وَهمَنا في رقْصةِ الأَمواتِ

– قد رَحلوا سُدىً-

مثلَ انحرافِ رَبيعِنا العَرَبيِّ

مثلَ خُيوطِ أَطيافٍ تَداعَتْ

تَفْعَلُ السَّنواتُ فينا فِعلَها

كَيْ نَفْقِدَ الرُّؤيا ..

في ليلِ حيرتِنا

   فهلْ يا صاحِ تُشْبِهُنا القصائدُ

   في تفاصيلِ الغُبارِ؟

   كأنَّني لَيْلُ الضَّبابِ يَروقُ لي

    ظِلّي غزيرُ الماءِ

    لا مَلِكٌ سِوايَ

    أنا المعذَّبُ بانتمائي

  يَهْرَعُ الفقراءُ نَحوي كي أُعانِقَ طالِعي

وأنا البريءُ/ الطيِّبُ / العَفَويُّ

أُنْزَعُ مِن بِداياتي

ويَسْرِقُ صَوْلجَاني الـمُغْرِضونَ

كأنَّني استأنَسْتُ خُذلاني من الخُطَبِ الـمُثيرةِ

وأستَكَنْتُ لِرَقْصةِ الأشباحِ

في مَعْزوفةِ الحزنِ العتيقِ..

تَلَبَّدَتْ سُحُبي

وأوْغَرَ قاتلي سيفَ التَّربُّصِ في دَمي

وتباعَدَتْ كلُّ المرافئ ِ

ليسَ مِن أَثَرٍ يَدُلُّ على مطالِعِها

كأنْ لا شيءَ…

ما مِنْ غيمةٍ تمضي إلى غاياتِها

في غَفْلةِ النّسيانِ

قل ما شئتَ يا جُرحي

فَرُبَّ دمٍ تَناثَرَ

سَوفَ يَسقي نخلَنا الموهومَ في الصّحراءِ

ها سِرْبٌ يجيء من النّوارسِ

يَقْتَفي أَثَرَ القلاعِ

فهل سَتوقِفُني على رأسي الهمومُ

                    وأصْطَلي بلهيبِها ؟

لا لستُ مُرتاباً

ولا شَجَراً يتيمَ الجِذْرِ..

من سَيُعيدني طفلاً يُهروِلُ في احتدامِ الرَّملِ

إذْ إرهاصُهُ يَحْتَدُّ ؟

عُمْري مرتَعُ النَّدَم المؤجّجِ

والوعودُ المثقلاتُ تَدقُّ ناقوسي

وتضرِبُ ساحِلي..

وأنا حَبيسُ غوايةِ التأويلِ

أعرفُ غايَتي وحدودَ مملكَتي

ولم تخسَرْ خُيولي..

لم أصافِحْ قاتلي يوماً

فقل يا بحرُ

صارَ اللحنُ سُنبلةً وأنغاماً تُهلّلُ

دونَكَ الأمواجُ تَعصفُ

لا حدودَ لها كما وَجَعي

فهل سَتقودُنا الأوهامُ

تسرِقُنا من العمر الذي ما اجتُثَّ

مِن حُجُراتِهِ ؟

أَمَسَيْتُ مُنْفَرداً بِحُزني

كلّما انفجَرَتْ ينابيعُ الحكايةِ

خِلْتُني مَلِكاً تجاهَلَني المكانُ

وحارَ في وَصفي الرُّواةُ

لعلّني تَنْهارُ من تحتي السُّدودُ

ولا حِراكَ يُحقّقُ الرّؤيا

ولا وجهُ الصّباحِ يُطلُّ ما بَين التَّمائمِ ..

تحتَ جِلْدي قد تنامُ الحربُ

إن تَعِبَ المحارِبُ

أو تَرَجّلَ عن قَصيدتِهِ..

فمن سَيُعيدُ ، ثانيةً ، رسائلَ عِشقِنا الغَرْقى

إلى كَنَفِ الجزيرَةِ ؟

أو يحرّرُ مَوْجَةً تَدْنو بفَرْقَدِها الشَّغوفِ

وتحتَفي بِرَبيعِها ..

ويَصُدُّ هائِجَةَ الأعاصيرِ التي تَجتاحُ

صَفْوَ بيارقِ الكَلِماتِ

يكتشفُ النَّبوءةَ في ابتهالاتِ العنادِبِ

واندلاعِ الضَّوْءِ

فوق رؤوسِ من صَعَدوا إلى الطوفانِ

يُبْحِرُ في ثنايا الجرحِ

في بَوْحِ  الضِّفافِ الـمُرهَقاتِ

وفِتْنَةِ الكَونِ الـمُحَمْلِقِ في تَصَدُّعِنا

فهل ضاقت رِحابُ الأرضِ بالفقراءِ ؟

هل أسرى بِنا الحزنُ الـمُغلَّفُ بالجنونِ

                            إلى معاقِلِهِ ؟

فَقُلْ يا بحرُ

مُلْتَبِسٌ هَواكَ

فقل كما شاء الرُّواةُ الطيّبونَ :

نَدورُ من وَجَعٍ تجمّعَ حَوْلَنا

مثلَ انهمار الغيبِ في اللاشيءِ

تَكْتَمِلُ المصادَفَةُ الجميلةُ

أن تَبُثَّ الريحُ لؤلؤَها الكريمَ على السُّطورِ

مَخافَةَ الإِعصارِ

أن يَرْسو الكلامُ على شِفاهِ اللّيلِ

يَرْفُلُ في ذؤابةِ شَدْوِهِ00

وأنا مَليكُ المكرُماتِ

نَثَرْتُ قافِيَتي

أُترجِمُ لهفَتي الأولى إلى حَوْضٍ من النّعناعِ

أسكنُ شَهْوَتي

مُتَمرّداً حتى أقاصي العُمْرِ

لا يَلوي ذراعي اليأسُ

والزَّمنُ المُطأطئُ رأسُهُ..

فكأَنّني مُذْ غادَرَتْ لُغَني الغُبارَ

تَهيّأتْ سُفُني

وَرَقَّ القلبُ دَمْعاً

شَفَّ عن وَلَهٍ إلى الغاباتِ

-لم أَفْقِدْ بها أمَلاً –

كأَنْ ألفَيْتُ عندَ مُروجِها

روحي مُعَلَّقةً إلى الناياتِ/

تَنْفُضُ وَهمَها

تَتلقّفُ القَبَسَ الذي ما زال رَقْراقاً

بلا خَوْفٍ يُباغِتُهُ ..

كما هَدْيُ الفوانيسِ المتيَّمةِ الشَّذى

صَوْتي يّدُلُّ عليَّ في قَلَقِ المدائنِ

نَخْلةٌ عَذْراءُ عاشِقَتي

ومِزْماري سُلافَتُها ..

فَمنْ سَيُقَلّمُ العُمرَ الـمُغَرَّبَ في انشطارِ الحلمِ

أسألُ أيُّ سحرٍ كان يسبِقني إلى ظِلّي

ويُنْقِذُ فكرَتي الشَمّاءَ من صَدَأ المسافةِ ؟

يا إلهي

ليسَ إلاّ أنْ تَمُرَّ خُطايَ في النَّفَقِ الأخيرِ

أنا المُتَيَّمُ في البَراري

نِـمْرُها المطعونُ بالخَيْباتِ

أعبرُ في صَهيلِ الأرضِ

مُنْتَفِضاً كما الأمواجِ

يَنْكَسِرُ الغُبارُ أسيرَ وَثْبَتِها/

أُحرّرُ حُلْمَها الباقي كعاشِقةٍ

تَرِقُّ لوَشْمٍ زائرِها

كما نجمٍ على شبّاكها يَهْوي

بِنَبْضِ حنينهِ/

عَبَثاً يُراودُني الصَّقيعُ

أُحرِّرُ الحلمَ المُؤَزَّرَ باتّساعِ البحرِ

كي أَرِثَ الطُّفولةَ

لم أُضِعْ مُلْكي ..

وما وقَّعْتُ صَكَّ الصُّلْحِ بين دمي

وخِنْجَرِ قاتِلي ..

لم أنسَ ثأرَ قَبيلَتي

مُذْ بايَعَتْني الخَيْلُ في زَمَن الرّمادِ

وأَطْلَقَتْني الغابُ أَسْقي غَرْسَها

وَصهيلَ بهجَتِها ..

فَقُمْ يا حَرْفُ من لُغتي وفُكَّ اللُّغْزَ

قُمْ يا شِعرُ من وَرَقي

إلى وطنٍ تَداعى حَوْلَهُ الفُقَراءُ

يَنْتَزِعونَ لهفَتَهُمْ..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى