حكايا من القرايا.. ” وانقضّ الطابون “

عمر عبد الرحمن نمر | فلسطين

ما شاء الله… أبو صبري الله أعطاه… الله ييسر لنا كما فتحها بوجه أبو صبري، هذا كان دعاء أهل البلدة، وهم يرون أبا صبري يحفر الغروز ويقيم (العمدان)، ويصب السقف، ويبني داراً من غرفتين ومرافق، تلك الدار التي حلم بها أبو صبري ذات يوم، ووفر جنى تعبه لبنائها، واحتفل الناس مع (أبو صبري) حال الانتهاء من البناء، وزغردت النساء، وأكلوا من وليمة جماعية، تلتها وليمة أخرى بعد الانتهاء من قراءة المولد لمباركة البناء…
يتهنّى أبو صبري بداره الجديدة، وانطلق أبو صبري إلى خطوة ثانية مهمة تكمل البناء، حفر بير (إنجاصة) لجمع مياه الأمطار، تلبية للاحتياج المنزلي، ولسقي الحيوان الذي سيقتنونه في المستقبل، ولري أحواض النعناع، والبقدونس والبصل الأخضر في قاع الدار، إضافة للورود… وكان أبو صبري وزوجته والأولاد، ينقسمون ويقفون على باب الغرفتين، ويتخيلون الزهور أمامهم، وروائع النعناع في أنوفهم… والطيور تقفز بين أغصان أشجار الحاكورة، ونباتات الأحواض.
ما الذي بقي عليك عمله يا أبا صبري؟ سألت أم صبري… بقي علينا شيء واحد يا أم صبري، بقي علينا إنشاء طابون ومزبل…صدقت، قالت الزوجة، ساعة بناء الطابون سنرفع (البنديرة) وتجول الاثنان في قاع الدار (الحوش) يعاينان موقع الطابون ومزبله… اتفقا على زاوية بعيدة عن الغرف، اتقاء دخنة الطابون خصوصاً عندما (يدعق) ويكون في أوج دخانه.
بدأ حفر أساسات الطابون الدائرية، وبدأت ترتفع المداميك الطينية المعززة بالحجارة، وأعواد الخشب، والتراب المجبول بالتبن، العمل جماعي، حيث يجتمع أفراد الحارة في الورشة، صغيرهم قبل كبيرهم، يجتمعون نساءً ورجالاً، هذا يُكَسِّرُ الحجارة لتلائم البناء، وذاك يجلب الماء، وآخر يرشه على التراب، وآخر يجبله بالتبن، والأخير يضرب الطين على القش والحجارة والأعواد… وإذا ما انتهوا من مدماك دائري تركوه ليجف كي يحمل مدماكاً آخر… والناس في احتفالية رائعة، يغنون، والنساء تهاهي، والبسكوت والراحة تطوف على العباد، وكؤوس الشاي تتلوها… وانتهى العمل بالمداميك الدائرية، حتى أصبح البناء عبارة عن أسطوانة طينية، مفتوحة الوسط من أجل الترتيب لباب الطابون.
جلبوا سيقان الأشجار الطويلة، نجروها حتى قاربت على الاستقامة، وجلبوا ما طالته أياديهم من حديد تالف، وأوقفوا السيقان فوق المدماك الأخير بشكل مائل، لتتلاقى في الرأس، ويكون الرأس شبه المدبب سقف الطابون، وهو بهذا الشكل لا تقف عليه مياه الشتاء… وبين السيقان كانت شجيرات النتش، وبينها الحجارة، والحديد والتنك، وصعد الرجال على ثلاثة سلالم مائلة يقف كل على سلم من جهة، ويُطَيّنون ويسدّون الفتحات، والناس في فرح وسعادة، وكأنهم يبنون برجاً يسافر في الفضاء… رمى أبو صبري جلة الطين الأخيرة في البناء، وصاح معلناً نهاية العمل… ونزل البناؤون، وابتعد العمال والعاملات، يغسلون أياديهم من التراب والطين، ويقلعون ما علق بأكفهم من أشواك النتش البريّ، ويستعدون لحفلة من البسكوت والراحة والشاي… والقهوة.
فجأة… وكأنها صاعقة حلّت بالمكان، صوت مرعب كأنه الرعد، ومنظر مرعب والأعواد المائلة والسقف والحجارة والطين تنهدّ أمام أعينهم… وتنزل على الأرض… كارثة حقيقية… الحمد لله، لا أحد تحت الردم – نظر أبو صبري وتفرس في وجوه الجميع – وكل شيء يعوّض… والله كل الدنيا ما بتسوى واحد ينغز شوكة، قالت أم صبري، وهلل الناس، وحمدوا الله على السلامة… شربوا شايهم، واحتسوا قهوتهم، وأكملوا ما بدؤوه من أكل الراحة والبسكوت… وانسحبوا من معركة قاسية… للاستعداد أكثر والتجهيز لمواجهة جديدة…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى