تقرير أمنستي: على دالّة الزمن
أمير مخّول | فلسطين
في سنة 2001، في المؤتمر الدولي لمناهضة العنصرية الذي عُقد في مدينة ديربان في جنوب أفريقيا، رفعنا في اتحاد الجمعيات الأهلية العربية (اتجاه)، وفي اللجنة المحلية للمنظمات المشارِكة، وبإجماع المنظمات الحقوقية الفلسطينية والعربية، شعار “الصهيونية عنصرية وإسرائيل أبارتهايد” (كيان فصل عنصري)؛ وفي اللغة الإنكليزية، كان الشعار رنّاناً أكثر (Zionism racism, Israel Apartheid)، وبات أحد أقوى الشعارات التي دارت في صخب المؤتمر وشوارع ديربان وكيب – تاون ومدن جنوب أفريقيا.
تبنّت الشعار الأغلبية الساحقة من آلاف المشاركين والمشاركات والوفود والمنظمات والقوى السياسية، بينما تحفّظ عنه بعض كبريات منظمات حقوق الإنسان، بما فيها أمنستي وهيومان رايتس ووتش. كان النقاش جوهرياً في بعضه، وتكتيكياً في بعضه الآخر، لكنه بقي في حدود النقاش الودّي، كوننا حلفاء في جبهات كثيرة لمصلحة الحق الفلسطيني. وحتى مفوضية حقوق الإنسان في الأمم المتحدة سعت لتراجُع المنظمات الفلسطينية والكتلة العربية عن شعارها.
في سنة 2021، أصدرت هيومان رايتس ووتش تقريراً لاقى أصداء مدوّية، اتهمت فيه إسرائيل بأنها دولة فصل عنصري، وهذا ما تمارسه. كما صدر قرار مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة في خضم هبّة الكرامة، في أيار/مايو، باتهام إسرائيل بارتكاب جرائم حرب، وأقرّ انتداب لجنة تقصّي حقائق في الجرائم الإسرائيلية في كل فلسطين، باعتبار أن إسرائيل تتحكم في كل مناطق فلسطين، بما فيها الداخل. وفي مطلع شباط/فبراير الجاري، صدر تقرير أمنستي الذي يتحدث عنوانه ومضمونه عن نظام الفصل العنصري، وجرائم فصل عنصري، وجرائم حرب إسرائيلية في كل فلسطين، وعلى امتداد وجود الشعب الفلسطيني في الوطن والشتات. كما سبق هذا التقرير الموقف الذي عبّرت عنه الممثلة العالمية إيما واتسون في دعم الشعب الفلسطيني ووصف إسرائيل بالفصل العنصري، وهو ما أكدته حملة “التضامن فعل” (Solidarity is a Verb). للتنويه، هناك نقاش بشأن توصيف إسرائيل، وهل هي نظام فصل عنصري أم استعمار استيطاني عنصري، أم كلا الأمرين، لكنه ليس ذي شأن هنا.
المسعى من هذا السرد هو تبيان أن التحولات التي لا نراها يومياً، تصبح مرئية على مؤشّر الدالّة الزمنية، والتي تؤكد وجود تحولات عميقة في البيئة الدولية، وحصرياً، على المستوى الشعبي، وأكثر حصريةً على مستوى طلبة الجامعات والنخب الثقافية والفنية في عدد من الدول، وبالذات في الولايات المتحدة. كما أنه لتبيان مدى اتساع القناعة، عالمياً، بأن الفلسطينيين الذين بقوا في وطنهم الذي قامت إسرائيل على أنقاضه في سنة 1948، ليسوا قضية إسرائيلية داخلية، بل إن اسرائيل تخضع للمساءلة بصدد سياساتها تجاههم، ويدعو تقرير أمنستي إلى تقديم المسؤولين الإسرائيليين إلى المحاكمة. بل يذهب التقرير إلى أبعد من ذلك، إذ يتعقّب خطوات إسرائيل القمعية والإقصائية والاستعمارية في كل موقع من فلسطين، في النقب والخان الأحمر، وفي غزة والقدس والأغوار والداخل، وإن ألغت إسرائيل الخط الأخضر، فستخضع للمساءلة عن ممارساتها في كل فلسطين، وتتحدث أمنستي عن “النظام الجامع” لكل السياسات، والتوقف عن النظرة المجزَّأة التي أتت دائماً على حساب الحق الفلسطيني وفهم جوهر إسرائيل واستراتيجيات التَعمية التي تسعى فيها لخلق الحقائق الاستعمارية على الأرض وإخفاء أذرع المنظومة ورؤوسها المدبرة.
إن التحوّل الكبير في خطاب كبريات منظمات حقوق الإنسان الدولية ليس بالأمر المفروغ منه. بل إن هذه المنظمات تحظى بصدقية عالية على مختلف المستويات، الشعبية والسياسية، ولها تأثيرها في الدول والسياسات. إلّا إن الأثر الأكبر هو في خلق مناخ عالمي بديل ونقيض للمناخ الذي تسعى إسرائيل لخلقه، بتجاوُز شعب فلسطين وحقوقه وقضيته، ويفضح كذبة “القوة الناعمة” التي تسعى هذه الدولة للتستّر من خلالها على عدوانيتها وممارساتها الاستعمارية الاحتلالية العنصرية. كما يشكل التقرير أداة في أيدي الشعب الفلسطيني في طريق الحرية.
لقد أمِلت العدوانية الإسرائيلية من قرارها، قبل عدة أشهر، بإعلان ستّ منظمات حقوقية وتنموية فلسطينية بأنها “إرهابية”، أن يشكل الإجراء ردعاً للتوجهات الفلسطينية إلى محكمة الجنايات الدولية، وردعاً لمجلس حقوق الإنسان ولجنة التحقيق المنبثقة منه في جرائم دولة الاحتلال. كما رأت في تسويغاتها أنها ستشكل رادعاً لحركات التضامن ومنظمات حقوق الإنسان الدولية، ليأتي تقرير منظمة العفو الدولية ضربة لكل ما سعت له هذه الدولة. كما يشكل سنداً معنوياً للشعب الفلسطيني، وتأكيداً أن الجبهة الحقوقية لمواجهة إسرائيل هي عالمية، وليست محصورة بشعب فلسطين فحسب.
تصريحات وزير الخارجية الإسرائيلي لبيد تميزت بالبلادة، إذ يسعى ليكون الصوت المقبول، عالمياً، نيابةً عن بينت، فقد أطلق حملة عنصرية، سعياً لدمغ تقرير أمنستي باللا – ساميّة. بكل بساطة، اعتبر هوية أمنستي لا – سامّية، ومعادية لليهود، وهي كلها انتقادات تتطرق إلى دولة إسرائيل وسياساتها وممارساتها، وهي أمور لا تمتّ إلى اللا-ساميّة بصِلة. وفي الوقت نفسه، يسعى للضغط على الإدارة الأميركية من خلال قوة ضغط في الكونغرس لإيقاف عمل لجنة التحقيق الدولية التي من المزمع أن تنشر تقريرها في حزيران/يونيو المقبل. وكما يبدو، فإن إسرائيل مهما بدت هجومية في هذه الساحة، إلّا إنها في وضعية دفاعية مضلّلة تملك فيها السيطرة الاحتلالية، لكنها تفتقر إلى الحق، وكذلك إلى الحجّة، وعلى الرغم من ذلك، فإنها تسعى لتجاوُز أية مساءلة دولية، أو إخضاع قادتها السياسيين والعسكريين للعدالة بصفة مجرمي حرب، وجرائم الفصل العنصري.
في الصورة المذكورة تحضر الحالة السياسية الفلسطينية، فمن ناحية، هناك نقاط نضال شعبي عظيم، وهناك دبلوماسية نشطة وفعّالة، وفي المقابل، هناك حالة يمكن وصفها بأنها انحدار سريع نحو الهوّة. ويبقى التحدي الجوهري في هذا الصدد هو ألّا تخيّب الحالة السياسية الفلسطينية ما ينجزه شعبها، وما تنجزه المؤسسات الحقوقية وحركات التضامن، وأن يشكل تقرير أمنستي رافعة للنضال الفلسطيني، لا أن تبتلعه الهوّة.