من إشكالات الترجمة الدينية.. الخضوع بالقول والطمع والقول المعروف (38)
أ.د. عنتر صلحي عبد اللاه | أستاذ الترجمة واللغويات
طلب إلي صديق عزيز أن أترجم مستخلصا لاحد أبحاثه به مناقشة علمية للخضوع بالقول المذكور في آية سورة الأحزاب: “فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض”، وهذا التعبير القرآني الفريد “الخضوع بالقول” به من ظلال المعاني الكثير، فهو يشير إلى ليونة الحديث وترقيق الكلام الذي قد يؤدي لإثارة الشهوات، فهذا الخضوع بالقول ربما يشكل المقدمات للوقوع في الفاحشة.
وفي التفاسير، قال السُّدِّي وغيره: «يعني بذلك: ترقيق الكلام إذا خاطبن الرجال»؛ ولا ترققن العبارات، وقال الكلبي: هو الكلام الذي فيه ما يهوى المريب”، وهونهي عن الكلام الذي يعجب الرجال ويميلهم إلى النساء، وهو الكلام اللين الخنث مثل قول المريبات والمومسات، والمعنى لا تقلن من أمر الرفث شيئا، أي لا تخاطبن الرجال إلا في جد واستقامة بعيدا عن بواعث الريبة والفتنة والإغراء الذي يثيره لين القول ورقة الخطاب المتكلف”
من استعراض التفاسير المختلفة، نجد أن مفهوم الخضوع بالقول له جانبان: محتوى الكلام، وطريقة الكلام. فالمحتوى المنهي عنه هو ما يخص أمور الرفث والشهوات، والطريقة المنهي عنها هي أي كلام يكون بالرقة المفرطة والتكسر والغنج في الكلام.
ثم يستمر النص القرآني فيبين الحكمة من هذا النهي عن طريقة الكلام ومغزاها، وهي حتى لا (يطمع) الذي في قلبه (مرض)، وبلاغة النص القرآني تلمح ولا تصرح بطبيعة (الطمع) وطبيعة (المرض)، وبذلك يحتمل (الطمع) لمن كان مستعدا له توقع التقارب مع المرأة التي لا تحل له، او استمراء الحديث في أمور شخصية، أو الانتقال إلى الملامسة أو المواعدة وحتى اشتهاء الوقوع في الفاحشة، فكلمة (الطمع) تشمل كل هذه المراحل حسب حالة الشخص المستمع، وحسب خطر (المرض) الذي في قلبه، وهو – بلا شك- ليس مرضا عضويا، بل مرض نفسي، يسول له اقتناص الفرص لتحقيق الرغبات، وقد يكون بقلب الرجل القليل من المرض فيستهويه كلام المرأة دون أن يصل إلى مرحلة الاشتهاء الكامل، وقد يعظم المرض بقلبه، فيتمنى أماني و(يزيد في الطمع).
أقول، في ضوء هذه المعاني البلاغية المتراكبة، كيف نصيغ عنوان دراسة بحثية بالإنجليزية في مستخلص شديد الإيجاز ، يشتمل على مصلح “الخضوع بالقول”، بكل ظلال معانيه المذكورة؟ إن تعبير be not abject in your speech الذي اختاره أربري في ترجمته لمعاني الآية لا يصلح تماما،لأن abject تعني التذلل، والخضوع المذكور في الآية لا يعني التذلل، والفارق كبير بين امرأة تتكلم بتذلل وألم وحسرة مما يثير التعاطف معها و الدفاع عنها، وبين امرأة تتكلم بتكسر وتغنج فثير شهوات الفاحشة.
بعض المترجمين استخدم تعبير be not soft in speech بمعنى النهي عن ليونة القول، غير أن كلمة soft تعني الطريقة المتحضرة الراقية في الكلام، لذا قد يتعجب القارئ غير العربي من النهي عن ذلك، فهل المطلوب أن تتكلم المرأة بغلظة وفظاظة وجفاء؟ والحقيقة أن القرآن الكريم يقرر “وقل قولا معروفا” والقول المعروف هو القول الذي لا يحتمل الإثارة كما لا يحتمل الفظاظة، إن القول الذي يقره العرف السائد ويؤكد على سلامته ومناسبته الاجتماعية.
يوسف علي يستخدم Be not complacent in speech ، وكلمة complacent تشير للشخص الذي لا يدرك مخاطر الموقف الذي هو فيه، ويشعر بالأمان أو الرضا في حين أنه على خطر عظيم، وقد تساوي “الغر” أو “الساذج”، ومعنى الكلام أن يوسف علي يقول للمرأة أن تحترس وتحترز في كلامها الذي تراه بريئا بلا إثارة لأنها قد تكون على خطر من إثارة الآخرين. وبهذا المعني، فيوسف علي فينفي النية عن المرأة في كلامها، ويحذرها فقط بأن تنتبه، والمعنى القرآني لا يسقط عن المرأة تعمد هذا الامر، مع وجود التحذير منه.
البعض يستخدم be not tender in speech ، وكلمة tender تشير الكلام الحميمي المثير ( وهي في الأصل تعني التقدم بالعطاء للمناقصات والشركات، فتحمل معنى المبادرة بالعرض)، وبالتالي في مناسب لجانب واحد من جوانب الخضوع بالقول ، وهو جانب المحتوى (أي لا تقول الرفث)، والحق إن التعبير القرآني لا ينهي عن هذه الحالة المتطرفة فقط، بل ينهي عن أي حالات أخف من ذلك كثيرا، حتى لو كانت تتلو القرآني (كما يقول صديقي في بحثه) إذا كانت ترقق الحروف بشكل مبالغ فيه.
لذا، وبعد هذا العرض، أرى أن الترجمة المناسبة هي do not exaggerate in softening of speech بمعنى عدم المبالغة في ترقيق الكلام بحيث يخرج عن الطبيعي (المعروف).
نأتي الآن للمرض والطمع المذكورين في الآية. رغم إن المرض واضح أنه ليس مرضا عضويا، إلا أن معظم المترجمين استخدم disease والبعض استخدم sickness والثانية أقرب للمعنى لأن لفظة sick لا تشير للمرض العضوي فقط، بل تشير للحالة المزاجية كذلك. واما الطمع، فهو كما ذكرنا يختلف من شخص لآخر، لذا نجد أن المترجمين يتفاوتون في ترجمة هذه الكلمة في هذا السياق، فالبعض يستخدم الإثارة الكاملة desire , moved with desire, may be lustful, may lust after you, والبعض استخدم كلمات أقل حدة تشير لتحرك الميل القلبي فقط، covet التي تعني اشتهاء المحرمات، أو aspire التي تعني تحرك التوقعات لما هو أبعد، أو year بمعنى أن يهفو لها الفؤاد. وأرى أن أيا من هذه الترجمات الثلاثة الأخيرة مناسبة أكثر من الكلمات الفجة المذكورة سابقا.
أخيرا، القول المعروف، نجد كذلك تفاوتا في التعبير: appropriate speech, just speech, good speech, honorable speech وأرى ان أفضلها honorable manner لأنها تؤكد على طريقة الكلام ولا يتصور أن تكون الطريقة راقية محترمة ويكون المعنى ساقطا.
هذه لمحة مما يعتري المترجم عند ترجمة نص ديني صغير مثل abstract بحث في الدراسات الإسلامية، أردت بها أن يرى المترجمون والطلاب بعض أساليب البحث والترجيح وقبل اختيار الألفاظ والترجمات المناسبة.
والله أعلم