أدب

قراءة في ديوان فليحة حسن “لو لم يكتشف كولومبس أمريكا”

ظل الروح في المرايا

بقلم: ناظم ناصر القريشي

    تقول المعاجم (لو) حرف امتناع الامتناع وأنا أقول هو امتناع الحلم عن الواقع والذاكرة عن النسيان، فالشاعرة فليحة حسن تقول “لو لم يكتشف كولومبس أمريكا” فتتدفق الذكريات كشبح الأحلام البعيدة تعبر برزخ النسيان ، بينما يستيقظ الصبح ليتنفس الحياة بعد أن لفظ أحلام المساء في أعاليه القصية ليتأمل العصافير وهي تتشبث بشجرة الحياة.. النهر وهو يتثاءب الموجات وهي بكامل أناقتها تجدل ضوء الشمس لتكون أكثر بريقا ولمعان وهي تسري مع الريح لتقابل الضفاف الطرية؛ ونحن كالموجات نحاول دائما أن نكتشف ذواتنا ونسعى لملاقاة الآخر عبر القصيدة وروحها الوثابة لعلنا نصل الى الضفة الأخرى، وكذلك الشاعرة العراقية المغتربة فليحة حسن في ديوانها “لو لم يكتشف كولومبس أمريكا” الصادر عن دار جان للنشر في ألمانيا عام 2015 بواقع 54 صفحة من النوع المتوسط والتي احتوى على 29 قصيدة، حيث تسربت ملامح الغربة الشاسعة الى القصيدة وتشكلت كلغة ثانية ليست مقروءة لكن نحس بكثافتها بين الكلمات فالشاعرة حولت الغربة الى نص فتقول بقصيدتها التي عنونة بها ديوانها (لو لم يكتشف كولومبس أمريكا!)

لكنتُ الآن ألعب(الغميضة)* مع بناتي
وعند العصر نجتمع حول صينية الشاي المهيل والكعك
ولكان أخي يتسلل بهمس أصابعه
يطرق باب البيت قائلا هل من أحد هنا؟!
وهو المتيقن تماما بأننا في انتظاره
نضحك ونضحك على(نكات)* طالباتي في المدرسة ورائحة البخور تعج بالمكان

وحولت إعصار ساندي الى مثيولوجيا حية حين صارعته ثلاثة ليالي حتى لا يقتلع سقف بيتها و صارعته مرة أخرى حتى لا يقتلع ذكرياتها عن وطنها الذي أصبح بالنسبة لها كنبتة الخلود
لو لم يكتشفها
لما خاتلتُ( ساندي)* ثلاثة أيام
هو يحاول أن يقلع سقف شقتي بكلّ ما أوتي من موج وريح
وأنا أثبتهُ بالدعاء!
و…………….
………………
……………
الهي ما آن لي أن أستريح؟!
عشرون عاما
وأنا أقاتل على جبهات عدة
ألم يحن النصر بعد؟


وصورت الشاعرة حالها على غلاف ديونها كالنورسة التي على شاطئ المحيط والتي استوطن قلبها الذهول وهي تنظر الى أثار العجلات المغادرة وربما قادمة أيضا من أماكن بعيدة لتغادر مرة أخرى وهذه النورسة التي ترى وطنها البعيد هناك خلف الأفق وربما ترآى لها كموجة وهي بجناحيها الصغيران لا تستطيع ان تطير اليه فغزي اليأس قلبها، لذا هي افترشت ذكرياتها التي تساقطت كأوراق يابسة تغازلها الريح وصنعت حلما كوطنها تماما فتقول في قصيدة (حتى يكون لك ظل وردة)
تشبث بي
وحدي من تستطيع أن توصلكَ إليكَ
تشبث بي
يا صنوي التائه
يا آهٍ لا ترضى أن تخرج مثل الآه؛
لسنا في الصحراء
ولم يدركنا موج
وأظفار الريح بعيدة
لكن الوحدة إذ تدرككَ
تجفّ الروح
وتفقد كل الأسماء معانيها
تشبث بي
فقط
………
كي تعرف معنى الأشياء!

    الغربة تعني ان تنشطر الى نصفين نصف هنا ونصف هناك والحلم الوحيد الذي يحمله خيالك في أعماق ذاتك القصية وأحوالك المتغيرة هو وطن مشطور بين كونين أيضا والإبداع هنا هي القدرة على تجاوز هذه الثنائية، بالسمو والارتفاع بالطبيعة البشرية إلى آفاق جديدة غير مألوفة، فتقول في قصيدة (لو لم احبك هل كنتُ سأنجو؟)
بعيد ا عن كوني سأموت مثل بقية أهل الأرض
ويصير الجسد سمادا للشجرة
يعّلق بعض منه في عجلات السيارات
يطمع بعض الطير ببعض اللحم
فيجهز بالمنقار عليّ
أو) ينّشده (العمال عن التنظيف
فأغدو بمثابة أنقاض متروكة
قد تركلني المكنسة
الى حاوية الحرق
أقول:
بعيدا عن كل الأفكار اللابدَ ستنمو
في كلّ دروب الرأس
لو لم أجد ك
هل كنتُ سأنجو؟!
و نتسأل بأية قدرة تستطيع شاعرتنا إعادة خلق لحظتها الشعرية، و ان تختار لها شكل الحياة التي ولدت منها؛ والتي تتحرك عبر ثيمات القصيدة النافرة من مراكزها أيضا، في دائرة أكبر بلا حدود خلال انفعالها اللغوي، تتحرك بانزياحات ذاهبة بإتجاه التأويل و التأمل باطراد بعيداً عن دلالاتها المضمرة، لتستكمل وتثبت ملامح خصوصيتها؛ فأن ما تقوم به الشاعرة هو تفعيل الرؤية و تجسيد الطاقة الإبداعية للغة وجعلها تستجيب لشاعريتها والتماهي مع إيقاعاتها لإنجاز الفكرة من خلال المعنى للوصول الى الضفة الثانية, وكأن القصيدة استعادة لحياة مفقودة خلال زمن الكتابة, فتقول في قصيدة (لو في إمكانك أن تحيا بعيد ا عني!)
افعل ؛
لو في إمكانكَ أن تعصر من غيم الروح و ضو ء
وتحيل رماد اليوم التالف باقات أمل
افعل ؛
ولو أسطعت بان تبصر في المرآة شظايا غيركَ
افعلها ؛
نعم
افعلها
واحييا من غير وجودي
لو في إمكانك أن تحيا بعيدا عني ؛
وهذا ما يجعلنا ان نفهم الشاعرة و أفكارها العميقة تجاه الابداع، ويعود السبب في ذلك إلى تجربة فليحة الشعرية التي احتوت بشموليتها ما هو خاص وتجاوزته الى ما هو عام ؛ فتميزت كتاباتها باقتناص روح الشعر وتحويلها الى ملحمة تجسدها حركة للحياة في القصيدة, بلغة نقية حالمة تعكس صفاء روحها التي تتوحد وتتماثل مع الكلمات رغم الألم الذي تحاول اختزاله فتقول في قصيدة (من جديد استأنف حياتي)
تحت الصنبور تماما أضع الرأس
وأدير المحبس من فوقه
فيسيل مع الماء الساقط
كلام صديقي اللزج
نباح الشارع
تجاعيد الأيام الوعرة
تواريخا أقضمها قلقا
ومدنا لا تشبه أبدا حرير قصائدنا
تسيل
كأصباغ الشيب الى بالوعة حمامي
وبعد قليل
ارفع رأسي
وكأني لم أُقتل
قبل قليل
بيديه؛
خيالها الإبداعي يرتدي الدهشة ببساطة التعابير دائما ؛ فهي تخلق عالمها وفق رؤاها الخاصة، وتسمح لنا أن نرى ذاتها ونتصفح ذكرياتها وهواجسها في القصيدة وتدعونا لان نراها كذلك ؛ فتسمح للمتلقي أن يرى نفسه من خلال القصيدة أيضا فهي توقظ في داخلنا أشياء منسية وربما كانت مفقودة، رغم تعلقها بخلق ميثولوجيا وابتكارها لأساطير أنية و هي محض محاكاة لما نحياه، بمعنى آخر أن الأسطورة هي كالحلم وما يشبهه وهذا يعني أننا لازلنا على قيد الحياة في زمن مستحيل، فاذا لم نلمح الغربة في عينيها سنجدها منتشرة على صفحات الديوان، كظل الروح في المرايا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى