أدب

سيجارة سعدات حسن مانتو، الإنسان

يوميات متخيلة

بقلم: د. ايهاب بسيسو | فلسطين

   حين تسيطر الحمى على الجسد، تختفي تلك المساحة الملتبسة بين الوعي واللا وعي، حيث تندلق الأفكار في ساحات النوم المتقطع كأحلام وكوابيس ويلهو الهذيان بعقارب الساعة كقط مشاكس…
على مدار الأيام الماضية هوت الحمى على جسدي كمطرقة فولاذية عملاقة، شعرت كأن فرقة جنود غامضة قد اقتحمت خلايا دماغي، كما يفعل عادة جنود الاحتلال الاسرائيلي في غرف البيوت الفلسطينية، مبعثرين كل شي، الكتب الأوراق، الدفاتر، الصور، الوسائد، الأغطية، المقاعد…
في حمى تلك البعثرة اللا منطقية، استطعت إنقاذ بعض حكايات لم تسحقها تلك المطرقة العملاقة، منها حكاية لقائي القصير مع سعدات حسن مانتو…
كان الوقت ليلاً حين رأيت سعدات حسن مانتو، مترنحاً في زقاق قديم في أحد أحياء المدينة، كان ثملاً كعادته، تفوح منه رائحة الويسكي الرخيص الممتزجة برائحة التبغ …
كنت، فيما سبق قد قرأت بالانجليزية بعضاً من قصص مانتو القصيرة عن الهوية والأمكنة والصراع بين الهند وباكستان، عن الاستقلال والحريات المهدورة في الشعارات الوطنية وتساءلت طويلاً: لماذا لا تظهر مجموعات مانتو القصصية مترجمة إلى اللغة العربية؟ …
حتى ظهر تلك الليلة الباردة وسط غيمة ضبابية من دخان التبغ الرديء، هتفت بتوتر: مانتو؟؟؟ …
في البداية لم يستجب لندائي أو حتى يتلفت لمصدر الصوت، ما أثار استغرابي الشديد، فأسرعت خطاي لألحق به، وعند الدوار الشهير في المدينة، هتفت ثانية بصوت أعلى: مانتو، ماذا تفعل هنا؟ …
التفت إليَُ ببطء، كانت ملامح وجهه النبيل الطاعن في الحزن، كافية لأدرك حجم الألم الذي يعصف به، بدت لي إجابته مشوشة، حين رد بلسان ثقيل: وما المشكلة في أن أكون هنا، هل أنت شرطي؟ …
طمأنته بأنني أحد قرائه الكثيرين، غير أنني مندهش من وصوله الغامض إلى هنا: ألم يستجوبوك عند الحدود، هل سمحوا لك بالدخول كهندي أم باكستاني؟ بتصريح؟ أم بفيزا خاصة؟ …
حاول مانتو إشعال لفافة تبغ جديدة قبل أن يجيب ببطء ووهن:
منذ وفاتي قبل أكثر من ستين عاماً في باكستان، وأنا لا أكف عن التجوال في المدن البعيدة، أحب الاندماج بسيجارتي، كما لو أنني أتجدد من هذه الهشاشة المشتعلة، أنا الهندي الباكستاني، الانسان المبعثر بين الذاكرة والنسيان، ما زلت تؤرقني الحياة المزيفة في كل مرة أحاول كتابة قصة جديدة عن الألم …
أخبرته بأن الطقس بارد وربما كان بحاجة للراحة، والدفء، فابتسم بهدوء نبيل مجيباً: اعتدت البرد مع الطريق، سأعود قبيل الفجر إلى لاهور …
اليوم صباحاً خف تأثير الحمى قليلاً غير أن مانتو بدا كظل متأرجح بين التعب والثمالة والابتسام …
استجمعت قواي وتركت ملاحظة صغيرة في دفتر اليوميات:
الجمعة ١٧ شباط ٢٠٢٣
سعدات حسن مانتو، لم يكن مجرد كاتب قصة عابر، بل كان الألم المكثف في فترة زمنية بالغة الحساسية السياسية والثقافية، ورغم رحيله المبكر وهو لم يتجاوز الثالثة والأربعين من العمر، إلا أنه ترك إرثاً هاماً في الأدب الانساني، يستحق القراءة والمتابعة والاهتمام والترجمة إلى العربية …

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى