رواية حُبُّ الغِرْبَان والعلاج بالسرد
استمطار الذكريات في رواية الكاتب الألماني بيتر فافريتسينيك
بقلم: عليّ جبّار عطيّة
حكاية بسيطة وواقعية للغاية يرويها الكاتب الألماني بيتر فافريتسينيك تتلخص بتخلي أمه عن أمومتها بتركها إياه وشقيقته وهما لم يتجاوزا الثالثة من العمر بعد سجن أبيه بجريمة جنائية.
أحد عشر عاماً مضت على انتهاء الحرب العالمية الثانية، والجروح لم تندمل، والجدار الفاصل بين ألمانيا الشرقية وألمانيا الغربية لم يحل دون استجابة الأم لنداء الحرية، وإسكاتها لصوت الأمومة، فتركت مسكنها وابنها وابنتها في مدينة (روستوك) سنة ١٩٥٦م هاربة إلى ألمانيا الغربية لتحيا حياةً أخرى ! حالها حال أكثر من مليوني وسبع مئة ألف ألماني هاجروا من شرق ألمانيا إلى غربها بحثاً عن حياةٍ صورها الغرب بالفردوس !
صدمة كبيرة مفاجئة تلقاها بيتر وهو في أول سلم الحياة كلفته التنقل بين دور الأيتام والبيوت لاسيما وهو يتيم كامل أي فاقد للأم والأب، ويطلق في اللغة العربية تعبير (اللطيم) على من مات أبواه بينما يعبر عمن مات أحد أبويه بـ(اليتيم).
في سن العاشرة يحظى بيتر برعاية عائلة تبنته لكنَّ رحلته لم تنتهِ؛ فما أن بلغ مبلغ الرجال حتى بدأ بالبحث عن أمه !
لماذا يبحث عنها، وهو في غنى عنها بعد أن صار كاتباً شهيراً، و أكاديمياً حاصلاً على الدكتوراه؟
ذلك ما يجيب عنه الكاتب بيتر فافريتسينيك في روايته الفريدة (حُبُّ الغِرْبَان) التي ترجمتها الدكتورة علا عادل
وصدرت عن الهيأة المصرية العامة للكتاب ـ ٢٠١٥م. وقد فازت هذه الرواية بجائزة (انجبورج ناخمان) سنة ٢٠١٠م.
هل هي رواية تناقش قضية عقوق الأم؟
ربما !
في هذا البحث المضني، يحاول الكاتب أن يمسك بضوء الشمس فيستمطر الذكريات، ويبحر في روافد الماضي متلمساً علاجاً لنفسه من خلال السرد الموجع فهو يجد في نفسه موهبةً في الكتابة :(أما أنا فولدت كاتباً.. أنظم الشعر بأسلوب جميل، وأربط التلاعب بالألفاظ مع المشاعر، وأضفي على النظم نغماً..) ص١٠٢
يروي الكاتب بأسلوب شعري شفيف حكايته براوٍ واحدٍ فهي سيرته الذاتية، متوقفاً طويلاً في أهم مرحلة يتشكل فيها وعي الإنسان وأفكاره ومشاعره ألا وهي مرحلة الطفولة حتى بلوغ سن الرشد لكنَّ حنينه إلى أمه التي تركته طفلاً ، وهو أحوج ما يكون إليها يجعله مضطراً إلى البقاء في الطفولة توقاً إلى أمه البايولوجية أو تخيل الأم.
(إنَّ جميع أطفال الدار يستعينون بأم متخيلة فى مقاومة الواقع، حتى يتمكنوا من قضاء سنوات الطفولة فى الدار كعابري سبيل فمن لا يتخيل أماً لا يكتب له النجاة فى عالم الملجأ الخالي من الأمومة، لا يمكنك أن تتعايش مع طقوس الحياة في الدار إذا لم تكن تخفي فى صدرك أماً ، فمن كان إلى جانبه أم متخيلة فسيكون أقدر على تحمل سنوات العيش فى الدار، مثل منظم ضربات القلب..)
خمسون سنة من البحث المستمر حاول فيها أن يخلع عباءة التبني، واسترداد اسمي أبويه الحقيقيين.
(.. إنَّ اللعب مع أشخاص غير معروفين بمثابة تأمل شبيه بالأموات. أنظر إلى ألمانيا. في مكانٍ ما على هذه الورقة يختبىء ذلك البيت الذي تسكن فيه الأم، إذا لم تكن قد ماتت، السيدة المنشود العثور عليها، السيدة التي ينبغي توجيه اللوم إليها، والتحقيق معها على يد الابن الذي يريد أن يعرف ما الذي أدى إلى أن تبحث السيدة دون اكتراث وبكل أنانية عن خلاصها في الهرب؟ وأن تلجأ إلى تخطي الحاجز بين الشرق والغرب دون تقدير لأي نوع من أنواع المسؤولية؟فقط : أين يمكن البحث في كومة القش ألمانيا عن الإبرة الآدمية.) ص٤٠ـ ٤١
تحفل الرواية بالأمثال، والأشعار، والأغاني، والقصص الشعبية، والخرافات ومن ذلك تشبيه الكاتب لأمه بالغراب فحسب الثقافة الشعبية الألمانية توصف الأم الأنانية بالغراب فالشائع لديهم أنَّ الغراب يتخلى عن أبنائه ! وهذا النظرة غير ثابتة علمياً، بل على العكس من ذلك فقد وجد باحثون أنَّ
علاقات المحبة والمودة تتجلى في مجتمع الغربان كغيرها من مجتمعات الطيور، وأنَّ من وظائف أنثى الغراب حضانة البيض حتى الفقس، وإطعام الصغار، أما الذكر فمهمته الأساسية حماية العش من الأعداء،و الغراب مخلص لزوجة واحدة طوال ٢١ سنة من معدل أعمار الغربان، وكلاهما يقوم بالبحث عن الغذاء، وجلبه إلى العش، وعند وجود أكثر من جيل من الأبناء داخل العش يقوم الأبناء بمساعدة الآباء في جلب الغذاء، وتنظيف العش، وإطعام الصغار، وحماية العش، فضلاً عن أنَّ الغراب يُعد المعلم الأول للإنسان في قصة قابيل وهابيل المعروفة .
والرواية يمكن وصفها بالقصيدة الطويلة المدورة، فيها روعة في السرد ترافقها الكثير من خلاصات التجارب الحياتية كقوله :
(ما زلتُ أعرف الرجل الواقف عند باب الحديقة الذي قال لي : إنَّ ماضي الإنسان يمكن قراءته من ملامح وجهه) ص٩٩
و(يبحث من عثر على شيء عن شيء جديد ليجده فالعثور على شيء يصبح إدماناً، ويصبح الباحث مدمناً..) ص ١٨٩
لاتنتهي معاناة الكاتب عند حدود، فبعد أن كان يتمنى أن يجد بيتاً يؤيه لا دار أيتام،
(فالطفل يؤمن بكل بادرة إنقاذ) ص٤٧
نجده يعاني الأمرين في بيت المدرسين اللذين تبنياه، ويرفض مناداتهما بالأم والأب بل يستخدم تعبير (الأم بالتبني)، و(الأب بالتبني) لرفضه التدجين، والأوامر الصادرة منهما، ولا يعترف إلا بالجدة التي تحنو عليه في بيت المتبني، ويبقى يستخدم هذه التعبيرات طوال الرواية.
هو خائف من الذكريات لكنه مضطر إلى اللجوء إليها :
(أنا خائف من الذكريات، وأريد أن أتهرب منها مثلما أتهرب من التدريبات البدنية، لكن ليس أمامي مفر. الصافرة تدوي والذكريات تصطف في الطابور، وتناديني من الفناء بصوتٍ عالٍ). ص ١٠٨
في حوار صحفي مع الكاتب يقر بأنّه ظل سنوات يصارع نفسه، حتى اتخذ القرار بكتابة سيرته الذاتية،وقد زار كل الأماكن التي عاش فيها مرة أخرى،فعانى من الآلام مرتين.
ويمكن القول : إنَّ القارىء يكتفي بهذه الرواية عن تتبع آراء الكاتب في كتبه الأخرى لأنَّه بيَّن الكثير من أفكاره بشأن الحنين إلى الأم، والنصف الآخر، والأصدقاء،ونظام التربية، والتعليم، وقوانين التبني، والحياة المدنية والعسكرية،وغيرها.
يقول : (.. تم تسريحنا من الجيش، وكان لزاماً علينا أن نوقع إقراراً مفاده أن نلتزم الصمت التام بخصوص كل ما حدث عند الحدود لمدة خمس سنوات. كنت أعبر الجدار في أحلامي. لم أتمكن من الهرب بنجاح سوى فى عالم الأحلام فحسب..)
لكنَّ هذه الاستذكارات قد تأتي لا إرادية :
(تقفز الأزمنة داخل رأسي. أنا لاعب تنس، أضرب الذكريات مثل الكرات التي تنطلق من داخلي كما لو كانت تصدر عن آلة ذكريات أصيبها فترتطم بحائط الذكريات.
تحلق كرات الذكريات حول أذني بحيث أفقد الرؤية وأرغب في الاستسلام من فرط الإرهاق، وتقفز الذكريات، ترقص، وتنط، تتدحرج وتسقط لتحط على المكتب كما لو أنها تسقط على أرضية ملعب التنس المكتظة بكرات الذكريات) . ص٨٨
يورد الكاتب في رويه الكثير من الأخبار الحقيقية يجعلها بمثابة فاصلة تؤيد أطروحاته، وهي تحكي عن أمهات وآباء يتخلون عن أبنائهم، أو يلقون بأطفالهم في العراء، أو يقتلونهم تخلصاً من أعباء التربية كأنَّما يواسي الكاتب نفسه ويجد العزاء في معرفة مصائب الآخرين، ولا يكتفي بذلك بل يذكر حكايات عن سوء معاملة الطلبة في دور الأيتام، والمدارس، فضلاً عن التعنيف الأُسري، وفي الوقت نفسه يخفف التوتر والحزن بإيراده عدة أغانٍ مشهورة للأطفال مثل هذه الأغنية التي تقول كلماتها :
(مي ــ ماوس ماوس /قام خياط باصطياد فأر /ماذا يفعل بالفأر/نزع عن الفأر الفراء/وماذا يفعل بالفراء؟ /خاطه ليصبح جوالاً /وماذا يفعل بالجوال؟ /يضع داخله نقوده /وماذا يفعل بالنقود؟ /يشتري بها حملاً ويمتطيه في السباق /وماذا يفعل في السباق؟ / يقع في الوحل !)ص ١٠٥
لعلَّ هذه الأغنية نبوءة بما سيحصل للكاتب فبعد خمسين سنة من البحث عن الأم يلتقي بأمه وقد بلغت السبعين من العمر، وتقابله كالحجر من دون اكتراث لمدة ثلاث ساعات فقط. هي لا تعتذر عما سببته له من خذلان والآم فقد تزوجت وأنجبت ثمانية أولاد يتعمد التعبير عنهم بالأرقام (الأخ رقم ٢)،(الأخت رقم ٢) !
يقر أخيراً بغبائه (.. كنت غبياً عندما بدأت في الاستماع إلى هؤلاء المكرة الذين حاولوا إقناعي بأنني لن أنجح في تحقيق التوازن النفسي إلا بعثوري على الأم المفقودة..) ص٤٦٨
وبعد اللقاء يقرر العودة إلى حياته (.. لم أعد في حاجة إلى الأم التي ماتت داخلي بالفعل منذ زمن طويل، وهو ما اكتشفته الآن فحتى وإنْ زرت المرأة الحية التي هي أمي الحقيقية فإني سوف أظل أراها أماً ميتة. تأثير السحر قد ولى، ولم أعد أستطيع مقابلة أي شخص. لقد توقفت رحلة البحث عن الأم فور اكتشافها.
لقد استنفدت شعوري بالأم، ما ينقصني الآن هو الشعور بالحنين إلى الوطن.) ص ٤٩٤
مع ذلك فإنَّ المرء يخرج من هذه الرواية بالكثير من الدروس والعبر والحكم، ويصل إلى نتيجة ذكرها المتصوف والشاعر شمس التبريزي (١١٨٥م ـ ١٢٤٨م) حين قال : (أياً كان ما يحدث لك لا تقع في اليأس ، فحتى لو أغلقت جميع الأبواب سيظهر لك طريق سري لا يعرفه أحد !).
*(حُبُّ الغِرْبَان) ـ رواية للكاتب الألماني بيتر فافريتسينيك ـ ترجمة : د. علا عادل ـ الهيأة المصرية العامة للكتاب ـ ٢٠١٥م.
عدد صفحات الكتاب ٥١٠ صفحات من القطع الكبير.