قراءة نقدية: مفردات الحرب في الصور الشعرية
سوران محمد | شاعر ومترجم وناقد
خلف كلّ فرحٍ يعتريك حزنٌ ينتظرك،
بعدَ كلّ سقوطٍ نجاحٌ يناديك
د. علي زين العابدين الحسيني
المقدمة:
کم هي جميلة ان يجتمع الشعراء والقراء علی مائدة ابداعية واحدة، يتقاسموا الهموم والابداع واللطائف، ربما الالتقاء عن هذه الطريقة لا يرهقنا مشقة الطريق و تعب السفر لمسافات طويلة، نعم تلك النصوص التي مازالت الارواح موجودة في بنيانها و تنبض بالحياة لأطول مدة، علی مائدة ‘عالم الثقافة’ حيث يقدم الشعراء عن طريقها نتاجاة أفکارهم الابداعية و نحن نشاركهم في عملية الانتاج بالقراءات المختلفة والاستنباطات المتعددة.
مهما نکن متفاوتين في تحديد تعريف محدد للشعر لكننا متفقون بأن الصورة الشعرية هي العنصر الاساسي لبناء هرم الشعر و هي تركيب لغوي لتصوير معنى عقلي وعاطفي متخيل لوجود علاقة بين شيئين، والصورة الشعرية الامثل هي التي لا تستنسخ الواقع کما هو، بل تصنع من اجزاء الواقع صورة جديدة ممتزجة بالخيال.
وللجاحظ أيضاً قول في هذا، إذ قال: “الشعر فنٌّ تصويريُّ يقوم جانب كبير من جماله على الصورة الشعريّة، وحسن التعبير” کما ربط الأرسطو بين الصورة والاستعارة واعتبر أن الصورة في جوهرها زخرف أسلوبي يقوم على التشابه بين مدلول ودال صفاتهما الجوهرية متطابقة أو متشابهة .
بل ذهب البعض بالقول بأن الصورة الشعريـة هي لبّ العمل الشعريّ، حيث تقوم بأداء وظيفتها بطرق شتی من بين تلك الاداة: الرمز أو الإيحاء، التشبيه، المجاز، الكناية.
کما تساعد هذه الركيزة الأساسية في الشعر من تسهيل عملية نقل عواطف الشاعر ومشاعره، حيث تمتزج الصورة بالشعور، وتتيح للشاعر الخروج عن الكلام المَألوف، كأن يجمع الشاعر بين الألفاظ المُتنافِرة أي غير المُنسجِمة. كما انها تعطي متعة كبيرة للمتلقي و تتأثر عليه و تساعده لكشف أغوار النصوص بهذ الطريقة التعبيرية الفنية الغير مباشرة و تعطيها قيمة شعرية و جمالية عالية ، وهي تصور الحالة النفسية للشاعر أثناء کتابة الشعر، فهي الترجمة لما يختلج في نفس الشاعر من أحاسيس وعواطف و الخيال لوضع الأشياء في علاقات جديدة و أمكنتها التي تناسب نصا ابتکاريا.
الصورة الشعرية في لاشعور الشاعر:
لو رجعنا الی مذهب التحليل النفسي و آراء (سيغموند فرويد) ومن بعده (جاك لاکان) الذي قام بتطبيق هذه النظرية في الحقل الادبي، لنری ان نفس البشري منقسم الی ٣ اجزاء: الوعي واللاوعي و ماقبل الوعي.
فان الجزء المقصود والمتعلق ببحثنا هنا هو (عقل اللاوعي) فقد عرف بأنه هو العقل الذي يكون مصدر الأحلام والأفكار التلقائية -تلك التي تظهر دون أي سبب واضح ومخزن الذكريات المنسية التي قد لا تزال في متناول الوعي في وقت لاحق، وغالبا ما يستفيد السرياليين من هذا الجزء داخل النفس.
وكثيرا ما نلاحظ بأن مصادر الصور الشعرية هي هذا الجزء من النفس الکامنة داخلنا و أحيانا تظهر الی السطح عن طريق تعابير أو حرکات أو اشارات لا ارادية، وهي مصدر غني للابداع الشعري و صورها، و لو امعنا النظر و تعمقنا في الجوهر و الجزء المخفي من النصوص سنکتشف أمثلة متعددة تقدونا الی هذا الصندوق الاسود داخل نفوس الشعراء، وبما ان الشاعر کائن بشري اجتماعي لە احاسيس و تجارب و ذكريات، يتأثر بما يحصل حوله كما يٶثر هو علی الآخرين كذلك. فهذه التجارب تتبلور في ذهن الشاعر فتخرج علی أشکال صور شعرية متعددة مـأســاوية أو كوميدية، كمثل نجار يصنع الكرسي -علی سبيل المثال- من الأخشاب الموجودة عنده و يتملکها فقط.
اذن نحن نقصد هنا بالصور التي تلهم الشاعر لأداء وظيفة الانتاج لكنه تأتيه اعتباطيا و بغزارة واحيانا تتواجد في (ماقبل الشعور) أيضا، وهنا نتميز صدق الصور و مدی قربها من واقع الشاعر، فلنأتي هنا ببعض أمثلة عملية تطبيقية لما اسلفنا ذكره من جريدة الموقع الثقافي المتميز ‘عالم الثقافة’. ولا تعتبر هذه الامثلة نقدا أو أطراءا للشعراء، بل انها امثلة تقريبية الی أذهاننا كي ندرك لب الموضوع بشكل أدق و أوضح. ولو ان جمال و بلاغة و ندرة کل هذه الامثلة تعتبر محاولات ابداعية جادة من قبل الشعراء و لذا قمنا بالاتيان بها كنماذج حية و موءثرة:
١- تقول الشاعرة وعد عبد العزيز صيوح:
أن الاشتياق موجع كأمٍّ مقطوعة اليدين وهي تُشاهد ابنها يغرق .
هنا تستعمل الشاعرة (التشبيه) كأداة لبناء الصورة، فان الاشتياق هو المشبه، والأم المقطوعة اليدين هي المشبه بها أما الكاف هو أداة التشبيه، والوجع هو وجه التشبيه.
لكن الأمر لا ينتهي هنا، بل ربما يسأل قاريء لماذا هذه الصورة التراجيدية بالذات؟ في حين ان هنالك آلاف صور و أفکار اخری من الكون لرسم صورة شعرية مغايرة و جذابة، هنا نجاوب و نقول هذا ما وجدناها في لاوعي الشاعرة التي عاصرت زمن الحروب والقصف والتشرد والمآسي و بتر الاطراف بالقنابل والمتفجرات، فهذه الصورة ربما شاهدتها في واقعها ومن حولها، أو علی شاشات التلفاز، لکنها بقت حية في الاعماق و تنتظر الفرصة السانحة للخروج، حتی ولو بتشبيه هذه الصورة المٶلمة بألاشتياق الی رٶية المعشوق، في حال ان هذه الصورة ليست الثيمة الاساسية للنص، لكنها تغذيها و تقرب الی أذهاننا ما تشعر بها الشاعرة من آلام الفراق، بل تعتبر صورة شعرية قوية و نادرة .
٢- أما الاستاذ خالد جمعة في نثره الفني ‘أيُّها الطائرُ الغريبُ’ تستعمل بدوره مصطلحات من مشتقات الحروب، وهو ينادي الطائر في السماء البعيد وهو يطير، بعيد عن عالم الانسان، لکننا نحسده مع الكاتب و نرفع من شأنه اذ ان الطائر يتميز عنا بصفاته الجميلة و من أهمها مثلما أشار اليه الكاتب الفاضل لا تلزمه جيوش و لا يتعارك من اجل المحافظة علی هيمنته، نعم ان هذه الصورة مباشرة مأخوذة من الواقع لكن لها أثر من خلال معناها الجوهري الشامل، و ربما اراد به الكاتب تصحيح مسار البشرية و نبذ جشع الانسان و ادانة غريزته الشريرة، كي يرجع الی رشده و يقلد علی الاقل هذا الطائر الصغير الذي هو بدوره يطير بعيدا و يهرب عن عالم الانسان، فلم هذا التلميح اذا لم يكن الشاعر قد عانی الامرين من الحروب و آثارها المدمرة و فجاعتها علی الذات والبشرية:
زقزِق للفضاءِ وللحريرِ الذي يملأُ ذاكرتَكَ الوحشية،
فلا تلزمُكَ خيولٌ ولا جيوشٌ لتدافعَ عن فضائك
توقظُ الكسالى من حروبهم مع ذواتهم
٣- أما شاعرتنا الموهوبة ريناس إنجيم تستخدم مصطلحات لصورها الغزيرة في ‘ لم تکتمل’ مستقاة من واقع لا ينكر أحد اضطرابه و آلامه و مآسيه، لکنها کأنسانة حساسة و ذات مشاعر حية تعيش هذا الواقع لحما و دما، لذا نراها هي بدورها ترجع الی مخزن اللاوعي وتستمد منها بعض صورها الابداعية، ربما قد أتتها هذه الالهامات لا اراديا ، لكننا کقراء لنا الحق ان نسأل أنفسنا بعد قراءة هذا النص : لماذا تدوين (الطعنات)و(الانفجار)و(انهيار) في هذه الأبيات الشعرية، ولم تستعمل علی سبيل المثال بدلا عنها: (المصافحة) ، (الازدهار) و(البناء)؟ هنا نرجع الی الشرح السالف ذکره و نقول انه صحيح بان هذه الصور کجزئيات صغيرة تکونت النص لكنها ليست هي الثيمة الاساسية في النص، لان موضوع النص يحكي عن قصة لم تکتمل، لكن وقعها و تأثيرها و بقاءوها داخل الذات جعلتها ان ترجع اليها وتستخدمها في موقعها الملائم.
والشعر المعبد بالطعنات
والانتظار الموشك على الانفجار
وانهيار عروش الوحدة
٤- وفي ‘قتله السكوت’ للشاعرة المتمكنة سهام الدغاري نواجه في ثنايا النص صورة شعرية جذابة مكونة من الخيال والواقع و في النتيجة يتکون عندنا شيئا جديدا، بل صورة ابتکارية خلابة ذات قيمة شعرية عالية، لكننا نواجه انعكاس نفس الواقع المزري لبيئة الشاعرة من خلال استخدام مصطلح (نبش) ولنا أن نتسائل لم لا (الزرع والانبات)؟ وهذا السٶال هو اجابة تقريرية لما نصل اليه من خلال قراءتنا والا ان للشعراء حرية تامة في الاختيار و لا يخضعون لأي جبر من قبل المتلقي، نعم ليس من ثقافتنا نبش القبور لكننا اذا رأيناه و سمعناه أثناء الحروب، فهي تصبح صورة شعرية في اعماق النفس وتأتي الی الواجهة عندما نريد ان نرسم صورة شعرية حتی اذا لم تكن تتحدث مباشرة عن الحروب والمعارك فهي تستفيد منها کمادة خامة لصياغة المعنی الاقوی والابلغ، لأن شاعرتنا هنا تحكي عن الاحلام، لكنها تأتي بهذا الدال (نبش) لأستعماله في صورة نادرة تحكي عن الحلم وفي نفس الوقت تسترعي انتباهنا الی ما لم تقلها الشاعرة، هنا تنبش تربة القصص (وهي مجاز) لكن في اسوء احتمالات الواقع قد يحصل نبش القبور عندما تصل الغطرسة عند الانسان الی أوجه.
حافية أقدامك ياحلم
تنبش تربة القصص الزائفة
٥- أما الشاعر الفاضل عبد الرزاق الضغير في ‘مات الظل’ يلتقط بکاميرته الشعرية منظرا رهيبا و مبدعا في آن معا، لكنها ليست للحياة والولادة بل للأحتضار و للموت ، ولو ان العنقاء أو الظل ربما يفسر من باب الرموز والالغاز، الا اننا هنا في بحثنا نتطرق الی مفردة ما و ليس الحديث عن الموضوع العام للنص كمحاولة تفكيكية، بل لألفاظ مثيرة للجدل استعان بها الشاعر لکتابة نصه، وقد تکون هذه المفردات الاقرب الی ذهن الشاعر والواقع الذي يعيشه، لكنه وجده الانسب للتعبير الشعري هنا، فهو ابن بيئته ولا يستطيع شطب آثار المناظر المٶلمة للموت والاحتضار عندما التقطه في مرحلة من مراحل تجارب حياته الطويلة ، فهو يقص علينا ما يراه حين من الدهر وليس احتضار العنقاء بحيث لم يکن هو عند نافذته آنذاك (احذروا من لم النافية في هذا السطر)، وهذه الصورة لها وقع و اهمية بالغة عند الشاعر، لذا يقوم بتصويرها لنا:
لم أكن عند النافذة أتفرج وأرشف القهوة وأنا أتلذذ بدفء الكوب
حين كانت العنقاء تحتضر
ومات الظل
٦- وكما لا نشکو و لا نلوم الاستاذ يونس العموري في نثره الجميل والمٶثر ‘ لأميرة المدينة السمراء الساكنة بثنايا الوجع’ حينما تحيط بنا من کل جهات النص الموت والظلم في صورها و حالاتها المأساوية، ربما هو يسرد لنا من خلال البطلة الرئيسية في هذا النص معاناة الانثی في مجتمع ذكوري، لکن الكاتب استطاع و بمهارة توظيف جزئيات الصور الفرعية في العنوان لسمراء ساكنة بثنايا الوجع، وهكذا يکون صادقا مع نفسه في الكتابة و يدخل المفردات المختارة بدقة في ماكنة الابداع ثم يصنع منها نصا جميلا عذبا و ذا دلالة و معنی مهيب، أو ربما قد يحاول الكاتب تغيير الواقع السلبي المشئوم من خلال نتاجاته و هو يقوم بثورة سلمية لعمل انقلاب داخل نفوسنا و في مفاهيمنا، وهو يعيش في واقع الاضداد و صار عدم المبالاة عادة يومية عند البعض و هم بحاجة الی من ينبههم من المصير المحتوم، نعم مايتعلق بموضوعنا في هذا النص المتعدد المرام والمعان، هو التعمق في الابعاد النفسية لمصطلحات و توظيف مفردات لـ’الموت والمطاردة، قيصر جبان، ضربات قاسية والصراخ’:
تقدم أيها الموت وخذ حصتك وارحل، تقدم أيها الموت وجها لوجه ولا تكن مباغتا واحصد أرواحهم فقد ملوا المطاردة، وملوا الرحيل.
لا تفرحوا كثيرا لرحيل القيصر فخلف موت كل قيصر، قيصر جديد وجبان آخر يتاجر بأحلامكم.
وتتأوه تحت ضربات القسوة، تعايش لحظتها، وتبكي شقاوتها، تصرخ بوجه رجولة تائهة.
٧- تقول شاعرتنا الرومانسية رند الربيعي في ‘على محمل الحب’ بدلا عن علی محمل الجد:
انت سلالة رجل
أحصده .. فى مواسم
شتاءاتي العابرة ،
أسوار يقظتي …
في مناورات ثورة
باردة.
هنا في هذا النص الرومانسي الجميل يأتي الی ذهن المرسل مصطلح غير شعري -كثير الاستعمال في العالم الثالث- (مناورات الثورة) لكن الشاعرة القديرة تضعه في مکان هام حيث تقوم بدور ابداعي و منتج، هذه الصورة الايحائية تساعد القاريء کي يفهم رسالة الشاعرة ولو ان تضاريس هذا النص القصير لا دخل له بالاضطرابات السياسية و الحرب الباردة والانقلابات، لكنها تعتبر أداة فعالة و دالا متجددا لأيصال أبلغ صورة الی قلب المتلقي لتقريب المعنی و توضيح أبعاده، صحيح هي تدل علی يقظة و وعي الشاعرة أمام أي محاولة مخادعة فاشلة، لكن هذه المفردة هي مکان الاستفسار والبحث عند القاريء، لماذا لم تستعمل غيرها، وكيف التقطها الشاعرة و ما مدی وقعتها علی نفسها لأول وهلة في واقعها المعيشي؟ وربما يقول قاريء ما لو لم يكن ذا اهمية لما استخدمتها الشاعرة هنا في موقعها المناسب لتکملة صورتها الشعرية بأحسن الوجه و ايصال المعنی اللازم الی ذهن المخاطب.
٨- ومن هذا الباب المجازي و في صدد موضوع الصور الشعرية المكونة من مفردات الحروب تقول الشاعرة آمال زكريا في ‘اختنق الهوى غرقا’:
كيف أقطع حبل وريدي
و أجفف نبع مَعيني
وأذبح حدائقي
بعد ما تورد الجوري
بنداه العبق
.
كيف إقطع أيادي أمواجي المتلاطمة
و هي تمد حنينها لك
.
لن أتوسلك سأغتصب وطنا
به مملكة توحدت فيها
الدماء فتخصب الحب الطاهر
هنا نلاحظ استخدام الشاعرة لقطات من الذاكرة المنسية و تم تركيبها مع المجاز في عالم الخيال كي ترسم شيئا مغايرا تماما عما يراود في ذهن القاريء و لانراه في الواقع بهذا الحال وهذه هي روعة و وظيفة الصورة الابداعية والخارجة عن المألوف السائد، فكلمات کالـ (قطع، ذبح، تجفيف، غضب، دماء..) لن تأتي اعتباطا الا ان تکون مخزونة في صندوق اللاوعي وترجع الشاعرة اليها اثناء الحاجة -عمدا أم بغير عمد، ايراديا أم لا اراديا- و احيانا هي تأتي الی الواجهة أثناء الضرورة، خاصة أثناء کتابة شعر تتغذی علی مفردات روح مكلومة، صحيح ان الثيمة الرئيسية في النص هي (الهوی) لكن بنيانه قوية و رصينة بهذه المفردات و هي توءدي دورها کطوابيق محكمة داخل بناية النص، ومن هنا انا کقاريء ادرك واقرأ شيئا عن الواقع الاجتماعي والظروف السياسية والاقتصادية لبيئة الشاعرة والتي تكون شهادة للتأريخ للأجيال القادمة.
٩- يعبر الشاعر الوقور مروان عياش في ‘بين إصبعين’ بشكل فني و تقنية عالية التعبير الايحائي عن الحالات والاوضاع المختلفة للناس في مجتمعاتنا، عن طريق اشارات اصابع اليد و رفعها أو ضمها، ويختزل هذا الاسلوب النادر في طياته افکارا قوية و لغة ايحائية عن طريقها نتفهم العلاقات الاجتماعية و ردود الناس تجاه الاخرين بقراءة اشارات الاصابع مع البعض، اما ترمز للهزيمة أو سب أم نصر … لکنها في کل الاحوال يعتبر هذا الاسلوب من التدوين شيء لأداء وظيفة نقد أو سخرية للبيئة السياسية و الاجتماعية، و ليست هذه اللغة بحاجة الی ترجمة للغات أخری، لأنها عالمية يفهمها من يدقق فيها، لكنها جديرة بالذكر ان هذه الثيمة جديدة في عالم الشعر وهذا ما أتی به الاستاذ عياش من وحي قلمه، وكل هذه المفردات تنبع من واقع طاريء اكتسحت اجواءها الكر والفر والهزيمة والنصر.
ما بين السبابة والوسطى
انتصر القوم
بكى القوم
و “البعض” أعلن دولة “أخرى”
كم رفعنا الشاهدة لله شكوى
كم رفعنا لبعضنا… الوسطى
وحين أرادوا أن نعيش حياة مثلى
علمونا
أن نرفع الإثنتين معا ..
وأصبحت إشارة للنصر ..
و رمزا
١٠- يقول عبد الغني المخلافي في ‘قيمة ‘ :
ثمة سوداوية تفقدني
الكثير
من المقاومة
مثلما ذكرنا سابقا فان تشاءوم الشاعر لا يأتي من الفراغ، بل تحط السوداوية بصمتها داخل النفوس شيئا فشيئا الی ان يفقد صاحبه الامل، وهو عکس التفاءول تماما، وهذه حصيلة ما تناقلناه لكم مسبقا بألتقاء عوامل خارجية و داخلية معا، حينها لا يبقی الشاعر فاعلا بل مفعولا به، لأن الشاعر بقلبه الرحيم الودود لا يمكن أن يواجه شراسة اصحاب القلوب القاسية ، الذين لا يأبهون بما يفعلون و ما يردعهم عن السوء ضمـير ولا ايمان ولا قانون، ولو نزلنا هذه الرٶية الی عالم الشعر لرأينا ان نسيم القصائد عذبة رطبة تهدء النفوس و تطمأن بها و تعطيها الراحة والنشوة من خلال تلك الجرعات الروحية المتناغمة، ولكن اذا انعكس الامور سينعکس معها دور الشعر والشعراء و تنقلب الرسالة السامية للشعر الی ضدها، أي نبت روح التشاءوم والنقد اللازع واللغة الجارحة، وهذا ما لم يتوقع مواجهته الاستاذ عبدالغني و المتلقي معه کذلك، وهو يستفيد من استعمال (المقاومة)هنا کمرجع و ارتداد للظلم والحرب في واقعه المنهار، والذي هو يفقده هنا بسبب التشاءوم.
١١- بغض النظر عن الاسلوب الابداعي المتميز والتفنن في استعمال الالفاظ المزدوجة للشاعر المبدع باسم عبد الكريم الفضلي في ‘ضبابية الاندثار المقدس..لاعزاء’ الا اننا نمر علی مصطلحات جديدة علينا، وهي من مخلفات الحروب و وسائل التدمير والابادة کالالغام، وحتی بعد انتهاء الحروب بسنين فأنها تنفجر و تبتر اطراف الابرياء و يتحول الانغام الی صراخ و بكاء، ربما قد يصادفه من عاش في بيئة الحروب وعرفوا کم من مخلفات الحرب تظهر الی السطح بعدما تزيل عليها التراب والاوراق کل العوامل الطبيعية، وهذا ما نتلمسه من هذا السطر، ربما ان السجيل ليس الا قذائف من السماء كما ان هنالك الغام من تحت الارض لبالمبرصاد للانسان المسکين الذي يريد ان يعمر الارض صلاحا و زراعة لکنها يفسدها الاشرار الطامعين، لا ندري ربما سيأتي زمان نلعن الحروب فيها عندما نيأس من اسمها ورسمها، حينئذ نريد ان نبني ونعيش بسلام في ما تبقی لنا من العمر القصير، کما مرت بها أوروربا في حقبة الحرب العالمية الثانية:
وانتظرْ ………. ان تمطر السماء سجيلاً ] .. فأوراق العـ(ـخـ)ـناق
تتراكم بين حنايا الأنــ(لـ)ـغام …….
١٢- عندما نأتي الی قصيدة رياب الحديد ‘الحنين’ نقف اجلالا و اکبارا لتضحيتها و روحها المتفائلة الطاهرة حيث ترسم لنا مشاهد مٶلمة من توديع المدن و الذكريات فيها واستفراغها من السکان ، من جراء وحشية و بطش جنرالات الحروب، فان القنابل لا تفرق بين الصالح والطالح و يحرق الاحياء و يدمرها بالكامل و يقتل الاطفال الرضع، لكن رياب كلها أمل بأن يسود الفرح و الاستقرار و ينتهي طور الطغاة، کم هي موءثرة هذه اللحظة الحزينة عندما يترك أهلها منازلهم کرها، رغما عنهم نحو المصير المجهول، و بالمقابل يطبق حصار مفروض علی المسالمـين المدنيين دون ان يكون لهم أي خيار و يد في الاحداث، ولا يتم هذا الا بمبارکة المجتمع الدولي واصحاب القرارات فيها، اذن أين الضمير العالمي الحي؟ نسأل مع شاعرتنا المناضلة هذا السوءال الی کل من يسمع نداءنا، لكن الامل الوحيد عند الشاعرة هي الحب الحقيقي كي ننسی عن طريقه الهموم والدمار، حقا ان هذا الفراق المحزن يحرك العواطف من الداخل و يجعلنا ان ندور مع الشاعرة بين الانقاض لأحياء ربما يکونون سببا لألفتنا و ضمادا لجراح قلوبنا المنكسرة:
أنت الحلم الذي غادرني ذات مساء
منذ افرغت المدن هوائها
وأنا أزرع لك حدائق روحي ورداً
سأسرق لحظات الفرح من بين الحصار لأغفو بين راحتيك
وأهدي شفاهك الهاربة لمدائن الوجع
قبلةً
فمدي يديك لحزني
فالمدينة تودع اخر الراحلين عنها
١٣- “إنَّ روحي نطفةٌ غجريَّةٌ
لا تستكينُ ولا تنامُ!”
أخيرا سنتمرد مع سلمى جبران في ‘تمرد’ حيث تضع الشاعرة القديرة سلمی النقاط علی الحروف، و تستعين بالمنطق كي ترسم لنا خطوط النجاة و خارطة الطريق، هي من علمتها الجور العدالة، هي من تعرف ان ما يتم اصلاحه بالامراء والحكام لا يقدر عليه الاخرين، فاذا فسد الرأس فسد الجسد کله، و كيف يستقيم الظل والعود أعوج؟ لا خير في فاسد يسبب المجاعة و الكوارث للأنسان، وربما قد يسمي نفسه راعي الناس والبلد، لكنهم ليسوا الا روادا للجهل و الظلام، يقودون الناس الی الخراب والانهيار العصبي و لبئس الحاكم هذا، هنا نكتشف نقطة الضعف في المجتمع عندما نتعرف علی حقيقة السياسة عندنا و کيف يدار وتضع الشخص الغير مناسب في المکان المناسب، لكن لا حياة لمن تنادي، فالجرح والجوع والظلم کلها مرادفات لواقع ترك أثره علی ابجديات شاعرة تناضل و تتطلع الی الافق المضيء كي تواكب عصرها و تبني كما يبني الاخرون، فلسنا أقل منهم شئنا، هكذا نتمرد علی جور الطغاة و نكتب المستقبل للأجيال المقبلة بحبر من ذهب كي ينعشوا و يتمتعوا بالحياة تليق بأنسانيتهم، نضحي من أجلهم للحرية و الكرامة و الرفاهية لم نتذوقها نحن، هذا هو الموقف الاصيل لقلم لن يمکن شراءه بثمن بخس.
قالَ: “انزعي من
قلبِكِ المجروحِ جذرًا
كي يناصِرَكِ الأنامُ
فالظُّلمُ محتكمٌ
وأهلُ الظُّلمِ حُكّامُ
.
إن جاع واحدنا،
فالجوعُ يرعانا
ويُشبِعُنا صيامُ
الختام:
كما قيل عن الابيجراما في النقد الأدبي: القصيدة القصيرة التي تتميز على وجه الخصـوص بتركيز العبارة وإيجازها، وكثافة المعنى فيها، فضلًا عن اشتمالها على مفارقة، وقد تتميز لغة الإبيجراما بالإيجاز والتكثيف والابتعاد عن استخدام المفردات الركيكة التي تخص القصيدة الطويلة. اهتم شعراء الإِبيجراما بالبناء الإفرادي في القصيدة فقد تعرضوا لبعض الحقول الدلالية مثل الزمن والموت والحزن. تميزت الصورة الشعرية في قصيدة الإِبيجراما بكونها مركبة وشديدة التعقيد والغموض، وقد ارتكزت على الاستعارة والتشبيه.
کما لاحظنا في النماذج الصورية لهذا النوع من الشعر، فان الشعراء تعمقوا في بناء الصور وتكثفوا معاني النصوص من خلال تلك الصور المعبرة والموءثرة داخل أنفسهم، في حين استعان جلهم بالذاكرة المنسية في سلة اللاوعي، لبلورة كينونة الكم الهائل من تلك الصور النفيسة والتي يمکن ان تكون محاولة جادة لتزين النص و اعلاء شأنه و تقوية بلاغته، لكننا لا نستطيع غض البصر و التخلي عن عامل البيئة المحيطة للشاعر ودورها في ابتكار تلك الصور الابداعية. كما ان تناول مواضيع الموت والقتل و المشاهد الدرامية في الصور الشعرية ليست الا مرآة فنية لما يدور من حولنا، وليس هذا تشاءوما، بل ربما هو بمثابة انذار بهبوب عاصفة الجهل علی العالم حيث ينتشر الهرج والمرج و يكون القتل أبسط شيء عند الناس، وهذا ما لم نتعود عليه و هو غريب عن تقاليدنا و ثقافتنا، لأن الانسان هو الاصل علی وجه المعمورة وهو الخليفة في الارض و مساعدة المظلوم و ايقاف الظلم يعتبر من الفضائل.
الا ان جل الشعراء کما تبين لنا في رسالتهم الانسانية من خلال اعمالهم انهم احرص الناس علی الحياة والتناغم والتعايش السلمي و هم کأصحاب الرسالة يواجهون العنف والقساوة بالحب وقد طغت الارادة الايجابية في النصوص علی الكوارث التي تمر علينا کمرور السحاب و سينتظر الشعراء دوما ربيعا مخضرا بعد شتاء قارس طويل، وکما قيل بالحب نحيا و نعيش، والحب يعطينا الامل والتفاٶل كي نستمر ببناء ما هدمتها آلالات الحرب الرهيبة، وَلا بُـدَّ لِلَّيـْلِ أنْ يَنْجَلِــي – وَلا بُدَّ للقَيْدِ أَنْ يَـنْكَسِـر.
المصادر:
١- الصورة الشعريّة في النقد العربيّ الحديث، بشرى صالح، المركز الثقافيّ العربيّ، بيروت.
٢- فن الايبجرام في الشعر العربي المعاصر، د.عبدالله رمضان، مکتبة نور.
٣- Jacques Lacan and the Adventure of Insight Psychoanalysis in Contemporary Culture By Shoshana Felman · 1987
٤- موقع عالم الثقافة الالكتروني ليوم ٢٧/١٠/٢٠٢١