الانفراد بالذات

أ.د. محمد سعيد حسب النبي | أكاديمي مصري

من العبارات المهمة التي جاءت على لسان العالم الكبير والفيلسوف الفرنسي المعروف “بليز باسكال”: كل مشكلات الإنسان تكمن في عدم قدرته على الجلوس بمفرده في غرفة هادئة ولفترة زمنية محدودة. والعبارة رغم بساطتها إلا أنها تحمل معاني تستحق التوقف الطويل؛ فالجلوس مع النفس والتأمل الذاتي يشعر الإنسان بانتمائه للصمت، وإذا بالأفكار تنهمر على الذهن، والأهم أن العلاقة بالذات تغدو أفضل وألطف.

إن الانفراد بالنفس يسمح لك بالولوج إلى عالم أحلامك الذاتية، لتتأملها وتجد الحافز الداخلي لتحقيقها، ولتعلم أنك مخير بين أمرين؛ فإما أن تعيش حلمك، أو تعيش حلم غيرك، وحلم النفس يحتاج إلى زمان ومكان للتحقيق، وإلا فإنك تضيع زهرة أوقات حياتك في مساعدة الآخرين على تحقيق أحلامهم.

ولعلك تدهش إذا عرفت أن كثيراً من الناس لا ينفردون بذواتهم أبداً، حيث العلاقة متوترة بينهم وبين أنفسهم، ويصبح لقاء الذات عندهم مهمة شاقة للغاية. وعلماء النفس يتفقون على أن أهم الدوافع هي الدوافع النابعة من الذات، والتي تنطلق بعد تأمل ذاتي بعيداً عن المثيرات المشتتة التي نعيشها الآن.

والتأرجح بين السأم والقلق فيما يعرف “بالإنتروبيا النفسية” إنما يحدث عند إرباك الذات بقدر كبير من المثيرات، والانهماك في مشتتات الحياة، وعلاج ذلك يتطلب جلسات انفرادية وتأملات شخصية متكررة. ولقد أشار “فرانز كافكا” إلى ذلك فقال: “ليس ضرورياً أن تترك غرفتك، وإنما لتبق جالساً، ملتزماً الصمت والعزلة الكاملة، وستلحظ أن العالم قد كشف لك عن مستوره، وأسر إليك ببعض خفاياه”.

والقضية الأهم في هذا السياق هي علة العجز عن الانفراد بالذات، وأظن أن السبب يكمن في أن بعضنا يضع نفسه في موقع رد الفعل وليس الصانع للفعل أو المخطط له، والفارق كبير بين المبادرة وردة الفعل. وبإمكان كل فرد منا أن يرسم خططه مقدماً بحيث تستجيب له الحياة؛ فالحياة إما أن تكون فعلاً أو رد فعل، وكلنا قادر على الإبداع والمبادرة والتخطيط.

ومن الغريب أن يقضي بعضنا جل أيامه في ممارسة دور حارس المرمى الذي يستجيب لضربات الكرة الموجهة إليه، إن دوره ينحصر في ردود الفعل في كل مناحي حياته ودون أن يدري بذلك. ومن بديع ما أشار إليه الكاتب الأمريكي  “روبرت فريتز” في التفريق بين المبادرة ورد الفعلأن الحياة عندما تصبح موضوع المبادرة يجد الإنسان نفسه مندمجاً في جوهرها، وكأن العالم مسخر له ومستجيباً لمبادرته. ولنكن على يقين أن الذي لا يحدد هدفاً لنفسه يصبح هدفاً لغيره، ومن لم يعش حلمه عاش حلم غيره.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى