من الشَّتاتِ إلى التِّيهِ العَظِيمِ
فايز حميدي | شاعر وفلسطيني مغترب
أفتحُ نَافذةَ غُرفتي وأستقبلُ الشّمسَ، أسترخي، أغوصُ في عوالِمي الدَاخلية، أتذكرهُ بحنينٍ مضيءٍ، وتهبطُ بيَّ الذَّاكرةُ إلى الزمنُ الذي لا تَأمنُ على نَفسِكَ إلا إذا كُنتَ قَاتلاً أو قَتيلاً …
أكوَامُ لَحمٍ وَصُراخ وَصَهيل ومشروعُ قيامةٍ ..
إنهُ المُخيم يَأبى الموتَ ..
كانَ المخيمُ المَاضي الجَميل الذي ننتمي إليه ، يتصاحبُ فيه الأسوأ والأفضلُ وَيمشيَان جنباً إلى جنبِ ، والثَّابتُ فيه الاعتزازِ بالنفسِ والشّجاعةِ وحُلم العودةِ والتَحريرِ ..
كان اليَرموك خُبز سَاكنيهِ ، ونبضَ الحَياةِ في العُروقِ ، ريحٌ رشيقةٌ محملةٌ بالطيبِ لا تبورْ في أزقتهِ الذكرَيات ، ولا تخونْ ، وتتمثلُ فيهِ روحُ الغاباتِ.
ذَات ظُلمةٍ كَانت تلكَ القَذيفةُ الرَّمضانيةُ على شَارعِ الجَاعونة مُجرَّدُ بدايةً للخُروجِ من حقبةِ الشَّتاتِ والدُّخول في حقبةِ التِّيه العَظيمِ .
شعبٌ فَائضٌ عن الحَاجة ، أرَادوا تَهجيرهُ أو ذَبحهُ من الوَريدِ الى الوَريدِ !!
لقد أصبحَ الشَّكُ هو القَانون ، والثِّقةُ نَادرةً ، وجَميعُ سَاكنيهِ مُدانون ولا من أدلةٍ تثبتُ البَراءة !!
فجأةً ، ما كانَ راقداً في أعماقِ المُستنقعِ يخرجُ إلى السطحِ :
الدويُّ ، الدَّمارُ ، الفزعُ، تحت وابلِ القنابلِ والرَّصاصِ …
مخيمٌ تحوَّل فجأةً إلى غابةٍ استَشرَتْ وحُوشُها وانفلتت غَرائِزُها بينَ فَوضَى التنَافرِ والحُطام والأجسَام الرَاعِفة …
كانَ المُخيمُ يَتصببُ أعداءً ، لقَد كَانت فلسْطِينُ هيَّ المُخيمُ ..
خلالَ شهرٍ وأكثر قليلاً من حِمَمِ الموتِ المُدمرة، تعرتْ شجرةُ السنديانِ ، لفَحها بردٌ قاتلٌ ، تَورمتْ رئتاهُ ، داهمهُ سُعالٌ مُتواصلٌ .. وكأنهُ يلفظُ ما تَبقى من حُلمٍ وَحياةٍ في زمنٍ يُولدُ فيهِ الطفلُ هَرِماً ..
ثُمةَ حَقائِقٍ لا يُمكن رؤيَتُها إلا في الظَلامِ .
بَدا الجميعُ وكأنهم يُشيعونَ حُلمهم الدَافءَ إلى مَثوَاهِ الأخيرِ …
لقد كَانت هزيمة مدوّية ، إنها الخِيانة الأقربُ إلى التَبريرِ …
على نحوٍ غريبٍ صَار الصمتُ سيِّدَ المَكان ، هدوءٌ مُذهلٌ ، وسكونٌ مُعجزٌ ، وَجوهٌ غَائمةٌ وَهجرةٌ إلى المَهانةِ.
يَا لهُ من زَمنٍ ، إنهُ زمنُ العَارِ …
لم يَكُن وَجعُ الرُّوحِ هَادئاً أبداً في عُقولِ وقُلوبِِ سَاكنيهِ بل كانَ هَادراً بعنفٍ وَصخبٍ شَديدينِ …
إنَّهُ الزَّمنُ الأكثر شراً وخذلاناً من الطاعونِ نَفسه …
رغبتُ أن أوقفَ جَبروتهِ ، وأدحَرُ سكينهُ التي يَحفرُ فيها قَبري وقَدري ونهايَتي .. واكتشفتُ أنَّ قَدرَ المُخيم كَقدرِ النَّوارسِ أن يَموتَ على شَاطئِ الحُلم واقفاً مثلَ أقدَارِ الأشجَار , وأنَّ النِهاياتِ مَا هي إلا احتمالاتٍ لِبداياتٍ جديدةٍ !!
تَصافَحا في ودٍ عَميقٍ ..
على كتفِ مُخيم اليرمُوك المُحطمِ ، بالقرب من مسجد البشير …
جلسَ عَجوزانِ مُتشابهانِ للغايةِ في السِّن، وانحناءةِ الظهرِ والتَعتيرِ …. وجهين متعبين حتى الثمالة ، بَدا عَلى مَلامحهُما أنَّهُما لم يَعرِفا الإبتسامَ مُنذُ زمنٍ ، شَيخوخةً لَبِسَها الذُّلَ لبساً ثقيلاً لا تَهواهُ .
-قالَ أحدُهم مخاطباً الأخرَ :
هل ما زالَ هُناك أملاً يا أبو عُمر ؟
صمتَ أبو عُمر …
مدَّ يدهُ إلى جيبهِ ، وأخرجَ عُلبة الدخانَ، وثبتَ السِيجارة في فمهِ، وبعينينِ دامِعتينِ بُكائهُما بُكاء تأملٍ، بُكاءٌ يَخرجُ من قَلبِ الرُّوح ، ظلَّ مُثبتاً عَينيهِ فوقَ وَجهِ اليَرموكِ المُحطّمِ، لا يَرفعهُما وَكأنهُ يَراهُ للمَرةَ الأَولى …
قربَ عودَ الثَّقاب بحيثُ لامستْ شُعلتهِ طرفَ السِيجارةِ ، وجذبَ نَفَساً وَاحِداً عَميقاً اشتعلتْ بعدهُ السِّيجارة ، وبالدُّخانِ الخارجِ بعد ابتلاعهِ من فمهِ أطفأ العودَ ، ثم لم يَلبث أن ألقاهُ أمامهُ بحركةٍ عصبيةٍ وهو يتلمسُ لِحيَتهِ البيضَاء ، وَردَّ قائلاً :
ما كرهتُ شيئاً يا صَاحبي ، كَما كَرِهتُ التَفاؤلَ الأبلهَ الذي لا يَستندُ إلى الواقعِ ، لقد كانَ المخيمُ الأملَ الذي يُعطينا زخماً دائما ..
عندما رأيتُ كلَّ ذلك الدَّمارَ ، أدركتُ أنهُ قد مَضى زَمنٌ وجاءَ زَمنٌ آخرَ ، عندَها فقط هَوت أبراجُ الأملِ الشَّامخةُ في دَاخلي ، وفرشَ الحُزنُ والأملُ العَقيمُ أغطيَتهِ الثَّقيلة على رُوحي وَقلبي مُولدا نُدوباً لا تُمحى …
يَا إلهي ما الذي حَصلَ ؟
سبعُ سنواتٍ عجافٍ ، كان الشوقُ قاسياً ، والحصرُّ والقَهر والحرَّمان ، والذُّل في تأمينِ الاحتياجاتِ اليوّميةِ ، وجشعُ أصحابَ العقاراتِ …..عِندما رأيتُ كلَّ ذلك الدَّمارَ ، لا أعلمُ ما الذي حصلَ لي !!
كنتُ أشبَهُ بذلكَ العُصفورُ الذي يَقفُ على غُصنٍ ، وقد تسمَّر في مكانهِ بفعلِ نَظرةِ الأفعَى المَوجُودة في أسفلِ الشَجرةِ ، كانَ يَكفي أن يَطير ، أن يَهرب ، أن يَهاجر ، أن يَرمي نفسه في البحرِ ، لكن أعضاءهُ خذلتهُ ، ما عادت تُلبيهِ ، فَهوى مُباشرةً في فكِ الأفعى المُفترسة …….
فلسطينُ تشبَهني يَا صَاحبي كما اليَرمُوك ..
– قالَ الرَّجلُ : البَركةُ بالأولادِ بجيلِ الشَّباب ، الحياةُ تُفاجئنا أحياناً ، بالتأكيدِ هُناك شُقٌ من أمَلٍ …
-ابتسمَ أبو عُمر بحزنِ قريةٍ استبَاحها الطُغاة وَعبروا :
أبنائيَّ فرقهم الزَّمنُ …فأخَذتهم الحَياة ُ كلٌّ من صوبٍ ، بعضهم هَاجرَ إلى أوربة ، والأخرَ الى غَزة هاشم ، ومنهم من أصبحَ تحتَ التُّرابَ أو طعاماً للأسماكِ ….
سكتَ بُرهةً ، بعدَ أن خُضلت عيناهُ من الحسرةِ التي دبَّت في وجدانهِ .
أبنائيَّ مثّلُ أبناءَ كل المُضطهدين في هذا العَصر المَاسونيُّ الفاجرِ ، زمن يهودا الاسخريوطي ، طحنتهم الحياة ، وخبزتهم الملمات ، وجَرحهم الزَّمن ، أخفقَ أحَدهُم هُنا ، ونجحَ الآخرُ هُناك …..كُلما غادرَ أحَدهم ، كنتُ أزدادُ عُرياً وبرداً ، وَسقوط ورقةٌ أُخرى من شجرةِ العُمّرِ ..
عُمر ، إبنيَّ الأكبرُ ، عادَ الى المُخيم من لبنان جريحاً بعد الاجتياحِ الصَ هيو ني عامَ أثنانِ وثمَانون وتسعُمائةِ وألفٍ ، وتشبثَ بهِ ، كأنهُ يتشبثُ بقبرٍ هو حُلمه الذي تَبقى لهُ ، وقد نجحَ ودُفنَ في مقبرةِ الشُّهداءِ القَديمة بالقربِ من قَبرِ الشَّهيد سعد صايل (أبو الوليد) …
لقد فعلَ كلّ مَا بِاستطَاعتهِ ، وقد رَحلَ عندما لاحت أعلامُ الهزيمةِ في المَعركةِ التي كانَ يَعرفُ أنهُ لن يَنتصرَ فيها …. وكانَ مُحقاً في رَحيلهِ ..
قبلَ أن يُسافر كنعانُ ، حاولَ أن يَفعل شيئاً ، كان أديباً مُميزاً كتبَ في الأدبِ والسياسةِ والاجتماعِ ، كان يَرى أن مُشكلة مُجتمعهِ الأسَاسية أن أفرَاده يَحيونَ في المَاضي في قرونٍ وسطى مَضت ، حيثُ سيادةَ العقائدِ على المعارفِ ، والتَّليدُ على الطَريف ، والجُمود بَديل التَّطور وَسيادة العَقل ، وأن بلادهُ لا يُمكن أن تصلَ إلى أيُّ تقدمٍ علميٍّ أو حَضاريٍّ إلا اذا تمَّ التَّحرر ، وعاشَ النَّاسُ فيه بتقاليدِ عَصرهم نفسه وقيمهُ وأنواعَ حُرياتهِ …. باعطاءِ أفرادهُ حتى حرِّية الخَطأ ، والا تَمنعهم عن خوضِ التَّجارب ، وَنورثهم صَوابنا نحنُ وخَطأنا ، بل نَتركهم لكي يَستخلصوا هُم من تَجاربهم ما يَرون أنهُ الصَواب ، ومَا يَروّنَ أنهُ الخَطأ …
كانَ يَقولُ أشياءٍ تُحرك مُستنقع القناعاتِ الرَّاسخة التي تَقوم عليها بعضُ النُّظم والمُؤسساتِ والتي تتصدَرها عَقلياتٌ ظلاميةٌ واستبداديةٌ ، تريدُ الغاءَ العقلِ ، وتأبيدَ التَخلف والجهلَ ، واعتُبر مَشبوهاً وَمكروهاً وكافراً …
سافرَ الى لندن ، كانَ يعتبرُ الغُرّبةَ حَرباً بِمعنَاها الخَاص ، زوجةً غَير صَالحةٍ …
حاولَ أن يَلتقي بوطنهِ في المَنفى ، لكنّهُ ظلَّ يعيشُ حنانهَ الشَّجيُّ الى الوَطنِ ، إلى الأرضِ ، كان يُردد :
( من لا وَطنَ لهُ ، لا كَرامةَ لهُ ) ، لَكنهُ برغمَ الألمِ والحزّنِ الدَّفينِ ، ظلَّ يأتزرُ ابتسامَته ، وكأنهُ يَتدفأَ بها ، في تلك الغُربةُ القاسيةُ ، وظلَّ الوطنُ بعيداً مثلَ حُلم جَميل استحالَ تحققهُ …
في كَارثتِنا الحَالية ، عادَ أحدُ أبنائيَّ إلى غَزة بعدَ أن ضَاقت بهِ الدُّنيا ، وجَدها رُبعاً خالياً ، حيث الفقرُ والمرضُ والحرمانُ ، طفلةٌ مقطوعةُ الرأسِ واليدينِ ، تُراباً يَحترقُ … هُناكَ حملَ السِّلاح ضدَ ع د ونا الم حتل وما زالَّ ..
أما أصغرُ أبنائيَّ وأعذَبهم ، فلذةُ كَبدي ، رُوحي في هذهِ الحَياةُ الفانيةُ وأجملُ أبنائي ، كانَ طالباً نجيباً ومتفوقاً في كليةِ الحُقوق -جامعةُ دِمشّقَ – يتمثلُ في أفكارهِ همومَ الفقراءَ والمُعدمين ، هَاتفني من مَرسين ذاتَ مسَّاء ، كانت بحةُ صوتهِ حزينةٌ ، وَفيها شيئاً من بَحة الوداعِ ، ولم أسمع صوتهُ مرةً أُخرى . قالَ من شَاهدوهُ أنهُ غَرقَ مع بعضِ أصدقاءهِ في بحرِ ايجةَ …
وها أنا بقيتُ وحيداً مع ابنَتي حَنين بعد وفاةِ زَوجتي قبلَ سَنوات بمرضِ عُضال مُفاجئ ، بَقينا نُصارع الحيَّاة في بحرٍ من الخَيباتِ من أجلِ لُقمةِ خُبزٍ ، لنحصلَ على شيءٍ من الرِّزقِ يُقيم الأودَ ، والحسرةُ الأُخرى التي لا تُنسى أنَّ مَنازل أبنائيَّ في غَربِ اليرموكِ قد تَحطَمت تماماً وَتحولت إلى كتلةٍ من الرُّكامِ ….
لقد أمستْ الحيَّاة بِلا حُلمٍ بلا أملٍ بلا روحٍ …
-قالَ الرجلُ :
لِماذا عَلينا أن نَدفع الثَمن دوماً ؟!
لِماذا كُلما حَصلتْ كارثةً في بلدٍ عَربي تُلصقُ بِنا ؟!
لِماذا يسعَى الجَميعُ كي تُصبح حياةَ الفلسطيني جَحيماً في العالم العَربي ؟!
لِماذا يُريدونَنا أن نَرحَلَ إلى أبعدِ نُقطةً عن وطَننا ؟!
لِماذا نَحنُ الضَحيَّةِ دَوماً ؟!
هُنالكَ سلسلةٌ لا تَنتهي من الِلمَاذات ؟!
ما هَذا الزَّمن الذي وَصلنا اليهِ ؟
-ردَّ ابو عُمر : لا اعلمُ لماذا يَخطرُ بباليَّ هذهِ الأيامُ قصةَ الأُضحيةِ والقُربان …
أتعلمُ يَا صَاحبي أنَّ القُربان في الأصلِ كانَ قُرباناً بَشرياً …
كانَ المصريونَ القُدماءَ يُضحون بالبشرِ بإلقائهم بالنيلِ ، درءاً لغضبِ إلهِ النّيلِ ، والنبيُّ إبراهيمَ الخَليل ، كما جاءَ في الرُّوايةِ -التَّوراتيةِ والقرَّآنية – رأىَ في مَنامهِ أنَّهُ يُقدم إبنهُ قُرباناً ، وبَادرَ الأبُّ لتنفيذَ رُؤياهُ .
أتَرى أنَّهُ يَشبَهُنا الى حدٍّ بَعيد ؟
أتَرى كُنَّا الضَحيَّة ؟
رُبما أرَادوا مُعاقبتُنا أن نكونَ عِبرةً ، أنقاضٌ تتألمُ ، أناسٌ من نوعٍ أخر مَذعورينَ ، الإذلالُ إلى الدرجةِ القُصوى ، إيصَالُنا إلى حالةٍ مُزريةٍ خَاليةٍ من الكِبرياءِ والقيمةِ والإحتِرامِ ، أمامَ انفُسنا والآخرَ..
أتَعلمُ أنَّ في التّاريخِ عِبرةً وَحكمَةً؟
الشَّاعر عماد الدّين نَسيمي، اتُّهِمَ بالزندقةِ ، ومُخالفةِ الحَاكمِ …كانَ ذلكَ عام ثَمانيةَ عَشرةَ واربَعمائة وألف …عَاقبوهُ :
السَّلخَ حيّاً ، أمامَ جَمهورٍ حَاشدٍ ، وَمجمُوعةٍ من المُفوهينَ التَافهينَ ( الخطباء ) من مَاسِحي أحذيةِ السُّلطانَ وأصحَاب العَمائمِ حيث كانَ ظِلال العدّل يَسكنُ في هيئةِ سيفٍ ، وَأخَذوا يُفندونَ أفكارهُ ويُجادلونه أثناءَ سَلخِ جِلدهِ وهو حيٌّ ، وعندَ الإنتهاءِ أُطلقَ الشّاعرُ حيّاً ، وهو يحملُ جلدهُ على كَتفهِ …. وظلَّ يسيرُ وهو ينزفُ .
أرَادوها عُقوبةً ، عبرةً لهُ ولغيرهِ ، لكنَّها تَحولت إلى إدانةٍ لهُم عبَّر التّاريخِ …
أفهمُ يا صَاحبي أن تَحصلَ أزمةَ خُبزٍ ، أزمةُ طاقةٍ كهربائيةٍ ، أزمةُ نفاياتٍ ، تَلوث ، سَكن … أمَّا أن تَحدُثَ أزمةُ تعفيشٍ وإبادةٍ لمخيمٍ حملَ رايةَ النّضالِ ضدَ الع دو الص هي وني البَغيض ، فَهذا ما لا أفهمهُ ، ولا أريدُ أن أفهمهُ أبداً …..
لقد تَبدلتْ القيّمُ ، وَتغيرت الناسُ ، وحتى الرَّجلُ البسيطَ العاديَّ ، يكادُ الأمل أن ينتحرَ أمامَ هذا الواقِع الظالمُ والقَاسي ..
كلُّ السّنون الخَصبَة التي قَضيناها في الأملِ والحَماسةِ من أجلِ وجُود المؤسساتَ الدِّيمقراطيةَ الحقيقيةَ كالقضاء المستقل والصحافة الحرة ..
كلُّ ذلكَ من أجلِ التَحريرِ والعَدالةِ الاجتمَاعية ، والحرَّية الحَقيقية والدُّولة المدَّنية ذَهبت أدراجُ الرٍّياحِ .
لقد باتَ الجميعُ كورقةٍ تعبثُ بِها ريحٌ هوجاءٌ في يومٍ مُغبرٍ ، والمُستقبلُ
أمَلاً مَجروحاً ، وفقدَ الجميعُ السَّيطرةَ على مَصيرهم و التَخطيط له ، وظلَّوا أسْرَى الظُّروفِ التي تُحيطُ بهم ، إنهم يعيشُون ليومهِم في ظلِّ الجُّوعِ والفقرٍ والبطَالةِ وانعدامِ القيمةِ غيرَ عارفين ما يُمكنُ أن يَحملهُ الغدُّ لهم …
ما يحدثُ هُناك تكرارٌ للأيامِ فقط ، كلُّ شيءٍ تَهشم ..
انظرْ إلى ما وَصلنا إليهِ ، الشَكلانية في كلَّ شيءٍ ، نتمسكُ بالقشورِ على حِسابِ اللبِّ ، وبالشَكلِ على حِسابِ المضمونِ ….لقد هَرمَ كلُّ شيءٍ
وباتَ باهتاً لا لونَ لهُ …
ما حدثَ كانَ واقعاً لا محَالة وكلّ الذي حَصلَ ويحصلُ بسبب غيابِ الحُرَّية وانعِدَامها من حياتِنا ….
ففي غيَابِها تحلُّ الوضَاعةَ والتَّفاهة ، وتصبحُ الحُقوق امتيازاتٍ ، ويغيبُ المُثقفُ المُشتبك ويتصدرُ المشّهدَ ذلكَ الأعلاميُّ المنافقُ والشَّعبوي .
فالإنسانُ بِلا حُريةٍ أو كَرامةٍ مُجرَّد عضلةٍ بهيميَّةٍ .
الحرَّيةُ للإنسانِ كما الرُّوح للجسدِ ، والمطرُ للأرضِ ..لكنَّ الثابتَ أن العبوديَّةَ لا ترياقَ لها …
أمامَ هذا الواقعُ المُزِّري لا يجوزُ لأحدٍ أنْ يَقول أُخذّنا على حينِ غُرةٍ !!
ومع ذلكَ ما فَتِئَ البعضُ يتوكأُ على عُكَّازينِ : عَسى ، ولعلَّ ..
أعداءَ أُمتُنا يُوظفونَ امكَانياتِهم لتحقيقَ أهدافُهم خطوةً خطوةً وهم ينتصرونَ في ذلك ، حتى بتّنا أشبهُ
بقاعدةِ التُّوجيه الفنّي في المَطارِ ، والتي تُسيّرُ الطائرةَ ، ولا نُدهشُ إلا من مًهارةِ الطَّيار ….
لقد مرَّ الزَّمن عَلينا ، لم نَعُد أبرياء ، ولم نَعُد أطفَال ، ولم نَعُد قادرينَ على الحُبَّ الذي تَعلمناهُ ….
خَصبٌ هذا القَهر فينا كَسهلِ مرجِ بن عَامرٍ وسهولِ الجَزيرةَ …
خَصبٌ كَوجَعنا الذي لا يَنطفئ !!
هذا الواقعُ القَاسي وَحدهُ مَغسولاً من كل رُومانسيةٍ ….