عاشق الحكمة وإعمال العقل الكاتب إبراهيم مالك في كتابه القصصي”خلاصة تجربة”

زياد شليوط – شفا عمرو

أهداني الكاتب والشاعر الصديق الأستاذ إبراهيم مالك، في إحدى زياراتي الأخيرة له، إصداره الجديد وهو من جزئين أطلق عليه “خلاصة تجربة وما عَلَّمَت تجربة قراءاتي وكتاباتي”. خصّص الجزء الأول للشعر والجزء الثاني للنثر. وكم سعدت للمفاجأة باختياري في قائمة الكتّاب الذين أهداهم المؤلف كتابه، حيث ورد في قائمة الاهداء” زياد شليوط الكاتب القاص من مدينة شفاعمرو”، فله مني الشكر على هذا الاهداء الجميل والمميّز.

يستهل الكاتب إبراهيم مالك كتابه بكلمة موجهة للقاريء، وقد ثبتها أيضا على الغلاف الأخير من الكتاب، يقول فيها: “لا أكْتُمُكَ سِرًا ما بنفسي، فكم رَغِبْتُ طويلا ومنذُ بَدَأتْ طفولتي تَشيخُ، حَقًّا، أن أحْكي لك ولِقارئينَ آخَرين، فَأذكُرُ أنَّ ما سأحكي لكَ ولقرّائكَ، صائحًا أو هامِسًا، هو أسطورة صينيّة قديمة، قرأتها قبل سنين في مَسرَحِيَّة قصيرةٍ ورائعة حَقًّا للشاعر والكاتب المسرحي الألماني، برتولدبريخت، تأمَّلْتُ الأسطورة والمسرحية بتَمَعُّنِ قارئٍ، اعتاد طَرْحَ التَّساؤلاتِ على نفسه، فازددَتُ قناعةً، إدراكًا ومَعْرِفَةً أنَّ تلكَ الأسطورة هي حِكْمَة حياة مِثْلَ كَثيرِ روايات وكتابات حضاراتنا الإنسانية القديمة وبينَها الحضارة العربية القديمة”.

كاتبنا عاشق للأساطير فمنها يستمد حكم الحياة، ويفتتح كتابه بالأسطورة الصينية الجميلة والتي تختزن حكمة كبيرة بعنوان “إن خليَت بليَت”، وهذا العنوان يذكرنا بمقولتنا الشعبية التي اعتدنا علىترديدها منذ صغرنا، وتدل على أن الخير يبقى موجودا مهما طغى الشرّ  وانتشر. وتحكي الأسطورة الصينية عن ثلاثة آلهة أخوة الأول والثاني يريان أن الانسان ينشر الفساد في الأرض، لذا فهو يستحق ما ناله من عقاب تمثل في الكوارث الطبيعية والحروب وغيرها، لكن الأخ الأصغر يخالفهما الرأي ويعتقد بأن الخير موجود، فاحتد النقاش بينهم وقرروا النزول الى الأرض لمتابعة حياة الناس، ووصلوا الى قرية صغيرة تسكنها امرأة عجوز تتعرض لاساءات متكررة من أهل القرية وتقابلها بابتسامة لا تزول عن وجهها، استغربوا الأمر وبعد شهر أعلن الأخوان الكبيران عن خسارتهما للرهان، فهتف الأخ الأصغر فرحا “إن خليَت بليَت”.

حتى في القصص التي وضعها الكاتب يظهر التأثر الكبير في الأسطورة، وكنموذج لذلك قصته “البحر البحيرة” فهي تبدأ على أنها قصة واقعية لكنها تنحو نحو الأسطورة (ص25-28) وكذلك “الجدّ الطيب” (ص 125).

من الأسطورة ينتقل كاتبنا إلى الرمز، ونتوقف عند قصة “المجنون” (ص29) والتي لا بد وأن تذكركبقصة للكاتب جبران خليل جبران تحمل نفس العنوان، ولا يتنصل كاتبنا من هذا الرابط، فيشير في قصته إلى قصة سلفه جبران واختلاف الجنون في كلتيهما.

مجنون مالك هنا تعرض للضرب بالحجارة من أبناء قومه مما سبب له الجنون، لكنه كان ينطق بالحكمة وينذر أهله من عواقب الوافدين من وراء البحار الذين سيسيطرون على أراضي قومه، وينطلق عاريا في شوارع القرية مما جلب غضب الأهالي عليه، لكن والدة الراوي كانت تشفق عليه في صغرها وتسعى لأن تغطيه بسروال، لكنه يرفض قائلا: ” هذا عالم يستحق أن أبوّل عليه”. وقرر الأهالي ذات يوم رجمه بالحجارة كما يرجم ابليس، وتنصلوا فيما بعد من قتله متهمين الحجارة الكبيرة بارتكاب الجريمة، وبعد قتله وقعت كارثة طبيعية أودت بالقرية وما ومن فيها.

هذه القصة رمزية تشير إلى ضياع فلسطين وأهلها لاهون عنها بملذاتهم وراحتهم وكسلهم، حتى أنهم تذمروا من صوت الضمير (المجنون) الذي حاول تنبيههم وتحذيرهم فقاموا برجمه وقتله، وبعدها “فركوا أيديهم، غسلوها من دم ذاك المجنون”،وفي هذا إشارة الى جعل”المجنون” نبيا،حيث وظّف الكاتب ما جاء في الانجيل المقدس عن طلب محاكمة وإدانة السيد المسيح من قبل الكهنة اليهود، لكن الحاكم الروماني بيلاطس لما رأى أنه لا توجد تهمة توجب محاكمة المسيح، تناول وعاء الماء وغسل يديه دلالة براءته من “دم المسيح”.

وينتقل كاتبنا الى القصص الواقعية، منها ما هو مستمد من واقع النكبة وبعضها على ألسنة أصدقاء له مثل قصة “بعض ما حكى صاحب أبو محمد العمقاوي”(ص59-64).وهي قصة درامية تصف حياة القرية قبل الاحتلال وما اتصفت به من عيش مشترك يضرب به المثل، وتتوقف عند مآسي الاحتلال بل ما جناه المخاتير وتجار السياسة ومن قدموا من الأخوةتحت لافتة “إنقاذ البلاد”، فاذا هم بحاجة لمن ينقذهم، وفي نهايتها يؤكد الراوي أن بقاء الأهل في البلاد كان صدفة. وكذلك قصة “طيطبا” (ص 102) وهي أيضا من قصص النكبة التي يسردها مالك بأسلوبه الأدبي، وهي لا تسير وفق ما اعتدنا عليه من سرد قصصي، بل تطرح تساؤلات صعبة الى جانب الذكريات الإنسانية والحنين العاطفي، حيث يصرّ الكاتب على إعمال العقل الى جانب العاطفة، وكذلك قصة “ما رواه زميلي وصديقي رائف الذباح ذات يوم” (ص 107).

ومن القصص التي استوقفتني في الكتاب، قصة “المبتدأ والخبر” (ص 143-149) والتي يمكن أن نطلق عليها صفة قصة واقعية مشوبة بالرمزية، أي أن الرمز يلعب فيها دورا مركزيا، لكن أحداثها تبدو واقعية جدا. فالقصة تتحدث عن مدرس لغة عربية مجدّد وطليعي، قرر يوما ما أن ينقل درس القواعد إلى أحضان الطبيعة، مع أن مادة القواعد لا تصلح للتدريس في الطبيعة، مما أوجد ذريعة لدى مدير المدرسة ليعترض على المبادرة، ويقترح بدلها على المعلم أن يصحب تلاميذه إلى حديقة الحيوانات في تل أبيب! لكن المعلم وبمساعدة وتأييد طلابه ينجح في نقل الدرس إلى الطبيعة المجاورة، وكان عنوان الدرس “المبتدأ والخبر”. المعلم ليس مجددا فحسب بل يتمتع بحس وطني، وهدف من وراء الدرس الى زرع القيم الوطنية في نفوس طلابه، فتكون الأمثلة عن الموضوع مستمدة من ذاك القاموس، وأول مثل قدمه أحد التلاميذ، بعدما استمعوا الى شرح من معلمهم، “الوطنُ جميلٌ”، وقدم المعلم مثالا منه “الحريّةُ حياةٌ”. وكان هذا منطلق للتفكير والنقاش بين المعلم والطلاب حول مفهوم الوطن والحرية والعلاقة بينهما، جعل إحدى التلميذات تطرح تساؤلات مثل: “هل يمكن بلوغ الحرية بلا وطن؟ وهل يمكن بناء وطن بلا حرية؟” وبعد جدال طويل تخلله اللغط والصراخ، وجّه المعلم بوصلة النقاش بأن ما نحتاجه “قوة إرادة واعية”، وكانت هذه خلاصة حكيمة من قبل المعلم لمحتوى الدرس وما دار فيه.

في هذه القصة تتوفر عناصر الجمال وجذب القاريء التي نجح فيها الكاتب من خلال أسلوب السرد الذي يتقنه، إلى جانب الرمز الشفاف الذي أضفى جمالا على القصة ومنحها عمقا فكريا وبعدا اجتماعيا وسياسيا، حيث مثلت شخصية المعلم، الانسان الوطني الواعي والمدرك لدوره في تربية الناشئة على القيم والوعي وليس مجرد التلقين، ولدينا عشرات بل مئات النماذج كهذه في مسيرة التعليم في مدارسنا. ويجعل الكاتب شخصية المعلم متكاملة من ثقافة ومعرفة إلى وعي وطني إلى تعامل إنساني، ودل على الجانب الأخير بعض العبارات التي وردت على لسان المعلم ودلت على رقيه واحترامه لطلابه ومشاركتهم في القرار، ليس من خلال السلطة والتسلط إنما بالمشاركة والاقناع وتجلت في عباراته: “لن تكون الرحلة مكلفة، لن أفرض عليكم، لنتعامل معه بقليل من الجدية، لنعد إلى درسنا”. كما أن اختيار اسم المعلم “خالد الأشرف” يحمل أبعادا جلية لا حاجة لشرحها.

وعلى هذا المنوال قصة “رباع الذهب” (ص150) وهي تجمع بين التراث حول تسمية الأراضي والأسطورة (العثور على الذهب في الأرض) سمعنا مثلها في طفولتنا وتنتهي بحكمة، ومثلها قصة “نولجا بنت الغولة” ص 226. وباختصار يمكن القول أن قصص المجموعة تشكل سيمفونية أدبية جميلة، لا يملّ القاريء من متابعتها بشغف، من موزع قصصي ماهر ومحنّك مثل ابراهيم مالك.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى