زئير العصافير.. قصة قصيرة
دكتور: أحمد حسين عثمان | مصر
ليس هناك أجمل من صوت العصافير الذي تستمع إليه عندما يتنفس الصباح ، وتغمرك الأنداء بباقة من قطراتها تلمسك لمسا خفيفا دون أن تضرك ؛ حتى يتحول كل شيء حولك إلى بلل سرعان ما تخمده الرياح وحرارة الشمس التي تكسو الأرض لحظة بعد لحظة . وكأن هذا الندى يخبر العالم بأن اللين هو الأصل .
سرتُ وأنا أتحسس الجدران عن مواضع الذكريات على نغم الزرازير ، عبرتُ على بيت متوسط العمر ، اخترقت نافذة أذني صوت عصفورة باهتة اللون ، كان صوتها جذابا لكنّأوتار الشجن تغلب عليه كان أشبه بالناي الحزين الذي يوقظ في داخلك مشاعر الحزن أو يبعث فيك رفات الإنسانية التي أهلكتها المادة وسطوتها .
يظهر قفصها من خلال كوة كبيرة ، ظللت واقفا أمامه سويعة ، حتى شاهدت رجلا أسود الوجه ولعله أيضا أسود القلب !، وهو يناولها بقايا خبز عفنة ، وبقايا ماء عكر ، ويغلق باب قفصها الصغير بغلظة كادت تزلزل أسواره النحيلة من تحت أقدامها الضعيفة وهي تتشبث بمخالبها الشبيهة بعود الكبريت المنحول خشية أن ترتطم بجدرانه .
كان صوته مزعجا حتى أن الطيور الطليقة تحجبت بفروع الشجر وماتت الألحان في حناجرها الصغيرة ، وتحولت معزوفة الكون الطبيعية إلى صيحة عاتية .
كنت أراقبها في صمت وأرى المشهد لا بعين وجهي ،ولكن بعيون قلبي المكلوم على حالها .
عدت إلى منزلي وأسلمت رأسي لوسادتي ، وظللت أتأمل حالها ، إن العصافير لم تخلق للحبس إن جناحيها يخبرا العالم: بأن الفضاء ملك لها ، وأن صوتها العذب ليس حكرا على أحد .
في اليوم التالي وقفت أمام الكوة حتى التقت العينان ، وتبادلنا الابتسامة ، لكن سرعان ماانحدرت منها دمعة توسل تصاحبها زقزقة حزينة ترجو رجاء لا يتوقف ، إنها تحرك جنايها في جنبات قفصها الضيق. إنها لا تريد أن تصدق بأن الفضاء الرحب صار قبرا ، وأن الرجل صاحب الصوت الأجش هو الوحيد الذي يملكها .تطايرت أعواد ريشها الناعمة على وجهي ، كانت أشبه بلمسة حانية على إحدى خدي .
قررت أن أفتح لها باب القفص ، وأنا تتحرك في داخلي غريزة العدالة والإنسانية ولربما بشاير الحب ، فتحت لها القفص بعدما خضت مخاطر ومحاولات مضنية .
أشحت الأغلال عنقفصها بابتسامة عريضة ، وما كادت يدي أن تلمسها حتى نقرتني نقرة دامية ، ولطمت وجي بإحدى جناحيها ، وصارت تغرد بصوت لا يبتعد كثيرا عن زئير الليث الذي يريد أن يثبت أنه لايزال ملك الكون ، إنها لم تعد تطيق القيود ، لم تعد تميز بين الحرية الرشيدة والضالة .
تولدتْ فيها غريزة الانتقام من كل شيء في الكون، أصبحت تعاقب الجميع في ثوب هذا الرجل الأسود ، وأخفت طبيعتها الحانية خلف دفعات جناحيها القوية ، ووارت صوتها العذب خلف ضجيج الغضب الناقم .
عدت إلى بيتي وأسلمت رأسي إلى وسادتي وأنا أتحسس بقايا جرحها في يدي ، ودار حديث في خلدي حزين فسره لي قانون نيوتن ” لكل فعل رد فعل مساو له في القوة ومضاد له في الاتجاه “