قراءة في ديوان “زفرات في الحب والحرب- 3” للشاعر الأسير هيثم جابر
رائد الحواري| فلسطين
الشاعر الجيد هو الذي يتجاوز ذاته، ليقدم ما هو جديد، ويرتفع عما قدمه في السابق، فالعملية الإبداعية تتسم بالتراكمية، فنجد كل عمل فيه شيئاً جديداً، إن كان على مستوى اللغة أو الشكل، من يقرأ “زفرات في الحب والحرب (1) و(3)” يجد أن هناك نقلة نوعية عند الشاعر، حيث استطاع أن يقنع المتلقي بأنه شاعر يجدد نفسه، يتجاوز بداياته.
بداية سنحاول التوقف عند واقع الشاعر الأسير من خلال قصيدة “ذاكرة الوقت” والتي يقول فيها:
“في قلبي قلبان
الأول يعزف لحن الدم
ويركض خلف لهيب العزة
لا يعرف نوم
والثاني.. يطارد ظلال أنثى قد
مرور الرمح في أرق الغيم
يتسلل زحفا فوق جدار الوهم
تتحدث ومضة برق بلغة الصم
تهدهد طفلها القمري
نم… نم يا حبيبي
نم
ينكمش حلم تجاوز حلمه حد الحلم
تتحشرج قافية بين حنجرتي وشفتين
وفم” ص18و19،
الفرق بين حجم المقطع الأول المتعلق بالدم” وحجم المقطع الثاني التعلق بالأنثى/بالحب يبين انحياز الشاعر للأنثى، وقد أشار الشاعر إلى حالة (التعب) التي يسببها القلب الأول/الدم من خلال قوله: “لا يعرف نوم” لهذا قدمه بصورة مختصرة ومكثفة، فبدا وكأنه (تعب) منه، لهذا لا يريد الإطالة في الحديث عن حالة تعب/قسوة.
بينما في القلب الثاني/الأنثى، نجده يسهب في الحديث، ويكرر ثلاث مرات لفظي: “حلم، نم” وهما يمثلان نقيض “الدم، لا يعرف نوم” فالحلم يعطي معنى الخروج من الواقع إلى آفاق ممتدة وشاسعة، وهذا يشر إلى رغبته وحاجته إلى الهدوء/الراحة.
كما أن الفرق بين “لا يعرف النوم” وبين “نم” والتي تعطي معنى كثرة الأعمال/المشاغل، وكثر الضغط الواقع على الشاعر، لهذا أراد أن (يعوض) ما فاته من النوم من خلال تكرار “نم” ثلاثة مرات.
وإذا علمنا أن رقم ثلاثة يعطي معنى الاستمرار، نتأكد أن هناك ضرورة للشاعر في هذا “النوم” كهذا يكون الشاعر قد قدم واقعه، وما يريده/يحتاجه.
قلنا أن الشاعر الجيد هو الذي يتجاوز واقعه، بداياته، (ويتمرد) على ماضيه، “هيثم جابر” يأخذنا إلى “عشتار” إلى الثقافة القديمة للفينيقيين/للسوريين، الذين عبدوا “عشتار”، وأعطوها صورة الخصب والحب، يقول في قصيدة “الظل الأحمر”:
“في زاوية الحلم البعيد
عند منعطف الفراق
وقفت أسترق السمع إلى ظلي الكامن هناك
يتبعني المنادي إلى شرفة الغيمات
معلنا بدء موسم الزرع والإخصاب
في ظل تتعمد أنثى الغار بدموع سماء
نقشت على جدران المعبد الشرقي
ملحمة المطر
في الظل خاطبني الإله الموسمي
أخلع ظلالك أمام معبد سنبلة
منحت إله العشق رحمها القمري
أتلو ترتيل المنافي فوق جدران السطور
وأزرع تخيل الشوق في رمل الثغور
أصعد إلى برج الحروف النازفات
زين ملامحها الحزينة بالسحب
ما أنت أيها الغربي إلا إله من خشب
جفاء يذهب الزبد
والشمس باقية إلى الأبد
أيها الظل المكبل بالصمت والسياط
أذرف دموع البرتقال في مواسم الأسفار
أنثر بذور الضوء في رحم القصيدة والقمر
أنت الذي بيديك تعصر السماء المعتق بالضجر
وتقيم مهرجان الفجر
المخضب الندى الأحمر” ص 23و24.
بداية نشير إلى أن الشاعر يؤكد أنه يتحدث عن القلب الثاني “الأنثى/ الحلم”، وبما أنه يتناول “الحلم” الأفق الممتد، فقد استحضر فكرة الخصب الفينيقية المتمثلة “بعشتار” وأحياها من جديد، فهناك ألفاظ متعلقة بالأسطورة: “الغيمات، الزرع، الإخصاب، أنثى الغار، المعبد الشرقي، المطر، الإله الموسمي، معبد سنبلة، منحت إله العشق رحمها القمري، وأزرع تخيل، وتقيم مهرجان الفجر/ المخضب الندى الأحمر” كل هذه الألفاظ لها علاقة بغياب وحضور “عشتار والبعل”، وبما أن الشاعر يتحدث أسطورة “عشتار/ البعل” فقد جاءت الألفاظ المتعلقة بالخصب متقاربة من تلك المتعلقة بالجفاف/ الموت، وهذا ما نجد في ملحمة “البعل” الفينيقية، التي تقدم الطبيعة بصورة متوازنة، الموت والحياة، الخصب والجذب.
واللافت أن الشاعر يتحدث عن الكتابة التي نجدها في الفاظ: “نقشت، ملحمة، أتلو، تراتيل، السطور، الحروف، القصيدة” وهذا يحمل بين ثناياه إشارة إلى الإنجاز الحضاري للفينيقيين الذين أوجدوا أول أبجدية في العالم.
وإذا علمنا أن عناصر الفرح تمكن في “الطبيعة، المرأة، الكتابة، التمرد” سنجد أن الشاعر في هذه القصيدة قد ألم بها جميعا، فقد تناول المرأة/ عشتار: “أنثى الغار، والطبيعة: “السماء/ القمر” والكتابة: “القصيدة” والتمرد من خلال تناوله لفكرة (وثنية) أسطورية، هكذا يكون حال الشاعر الحالم، عندما يريد أن يخرج من واقعه ويتمرد عليه، فهو لا يتجاوز فقط السجان والجدران فحسب، بل أيضا الفكر العقائدي الديني الذي يتبناه، من هنا نجده انطلق بحرية متحررا من كل ما يعيق انطلاقته نحو “الحلم/ الآفاق، فوصل إلى عشتار والبعل، وأعاد إيحاءهما وقدمهما بهذه الصورة الجديدة.
الشاعر يتألق في قصيدة “أضغاث أحلام” التي يحاكي فيها سيرة “يوسف” عليه السلام:
“قمر على نزف الوريد
الشمس تخلع ظلها الوحيد
جرحي أحجية .. بيت القصيد
تراودني عن نفسي امرأة الوقت
صباح ذات عيد
أرى برهان ظلي البعيد
قميصي قد من دبر
فكذبني العزيز وصدقهن
فبحثت عن رب جديد
أنا الضحية سيدي .. يا ذا العمر المديد
من راودتني عن نفسي
وقددن قميصي من قبل ومن دبر
وما من نصير أو مؤيد
يا ذا الرأي الرشيد
تهت في المنافي.. تجرعت الصديد
ألقوا بي في السجن
دون تهمة
يلتهمني الموت والقضبان والحديد
يا صاحبي السجن
أفتوني في رؤياي
إني رأيت والينا المعظم برفقة الحراس
يجوب الموت والأحياء .. يتلمس أوجاع الناس
وحوله الشعب المجيد
يهتف باسمه ودوام العمر المديد
إني رأيت الناس في بحبوحة
تهنأ بالعيش الرغيد
هي أضغاث أحلام يا بني
واقعنا أسود شديد
القمع والإرهاب والظلم الشديد
الجب هو الجب
وكيد إخوتي شبح لا يغيب” ص296و30.
التناص واضح مع سورة يوسف، لكن الشاعر يستبدل ضمير المخاطب في السورة والذي جاء على شكل سرد خارجي إلى أنا المتكلم، “امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه/ تراودني عن نفسي” “إن كان قميصه قد من دبر/ وقددن قميصي” “ألقوه في غياهب الجب/ألقوا بي في السجن” “يكيدوا لك/ وكيد إخوتي”، وهذا (التغريب) لضمير المخاطب يستوقف القارئ ويجعله يفكر/ يتأمل فيما يريده الشاعر، وهذا يأخذنا إلى مضمون القصيدة، التي تقدم واقعنا البائس، فالشاعر يستخدم رمزية “أنا يوسف” ليسقطها على الشعب الفلسطيني، وحتى الشعوب العربية التي تعاني من الظلم وجور الحكام، فهناك مجموعة مقاطع متعلقة بحالة الظلم/القهر التي يعانيها المواطن العربي: “تهت في المنافي.. تجرعت الصديد/ألقوا بي في السجن/دون تهمة/يلتهمني الموت والقضبان والحديد/واقعنا أسود شديد/القمع والإرهاب والظلم الشديد” فالمضمون قاسٍ، مؤلم، لكن الشاعر من خلال تناصه مع سورة “يوسف” وما فيها من مضامين صمود/صبر/إيمان ونهاية سعيدة، خفف على المتلقي شيئا من هذه القسوة.
كما أن استخدامه اللغة التراثية والتي نجدها في: “يا ذا الرأي الرشيد” أسهم أيضا في تخفيف تلك القسوة، وهذا ما يجعلنا نقول إن الشاعر يوازي بين قسوة الفكرة/ المضمون وبين الشكل/ الأداة الأدبية التي يستخدمها، بحيث يوصل فكرة الألم بأقل الأضرار على المتلقي.
الشاعر يحاكي قصيدة مظفر النواب “القدس عروس عروبتكم”، وقصيدة نزار قباني “غنت فيروز” فيجمع بين القصيدتين ويقدم رؤيته للواقع العربي والفلسطيني في قصيدة “عذرا فيروز” التي يقول فيها:
“…أجراس العودة سيدتي
لا لن تقرع
ما دام السفلة تحكمنا .. وأفخاذ العهر تسحقنا
تبيع الدم والمدفع
ما دام يحكمنا السفلة وأولاد القحبة والخضّع
ليس الآن وليس غدا
أجراس العودة لن تقرع
ما دام الشعب المركوب يقبل
بابن عاهرة يتملك رقبته ويخضع
عفوا نزار قباني
إمام العشق والثوار
يا سيف الشعر المسلول المشرع
ما عادت بلاد العرب أوطاني
صارت مصدر أحزاني
تلفظني ..تقتل أطفالي الرضع” ص32و33.
عدم تغيير الواقع العربي إيجابيا منذ عام 1967 وحتى الآن، يبرر للشاعر هذه المحاكاة، فهو يقدم قصيدة جديدة، وفي الوقت ذاته يدعوا القارئ إلى التقدم من قصيدتي “مظفر ونزار” وهو بهذا يذكرنا بواقعنا البائس، وما استخدامه لألفاظ “القحبة، المركوب، السفلة، العهر، عاهرة” إلا رد على ما نحن فيه، فجاءت ألفاظ القصيدة تحمل عين الألفاظ المستخدمة في القصيدتين.
===
الديوان من منشورات دار الرعاة للدراسات والنشر، رام الله، فلسطين، ودار جسور للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، الطبعة الأولى 2022.