لو استقبلتُ مِنْ أمري ما استدبرتُ، لَعُدتُ بالجماعة إلى أيام «المأثورات»”؟
د. خضر محجز | فلسطين
عن المرحوم حسن البنا وسؤال الأخ عبد العزيز عودة:
شرفني أخي الشيخ أبو أحمد: «عبد العزيز عودة» ـ حفظه الله لنا وللإسلام ـ بسؤاله الذي يقول:
“كيف تفهم عبارة «حسن البنا» ـ رحمه الله ـ التي ذكر الشيخ الغزالي في كتابه: «علل وأدوية» أنه سمعها من «البنا» في اليوم الذي سبق استشهاده، الحادي عشر من فبراير للعام 1949: قال الأستاذ البنا: “لو استقبلتُ مِنْ أمري ما استدبرتُ، لَعُدتُ بالجماعة إلى أيام «المأثورات»”؟
فأقول بعد حمد الله والتوكل عليه:
المرحوم «حسن البنا» أسس جماعة سماها «الإخوان المسلمين»، انتهج فيها منهجاً سعى للجمع بين سلفية المذهب، وروحانية السلوك. وهدفها الحكم لغرض فرض تغيير المجتمع من الأعلى: فخالف بذلك سلفية مذهبه، وصوفية سلوكه.
فصوفية السلوك اقتضته أن يأمر بعقد الحلقات اليومية للذكر، ووضع لذلك كتاب: «المأثورات»، الذي أقول لمن لا يعلم من القراء: إنه كتاب جمع فيه المرحوم البنا بعض الأذكار النبوية، في المواقف المختلفة، وطلب من كل أفراد الجماعة ـ مجتمعين أو متفرقين ـ أن يتلوه صبحاً ومساءً.
وتلك بعض مظاهر ما قال البنا إنها صوفية جماعته.
وأما سلفية الفكرة، فقد قضت بطاعة الحاكم. وتلك التي تحيّر فيها «حسن البنا»: فتارة يمحض الملك فاروق ولاءه ـ كما يظهر ذلك في رسائله المحفوظة ـ وتارة يقبل يد الملك عبد العزيز آل سعود، دليلاً على تأثره به وطاعته لفكرته. وتارة ثالثة يعلن أن هدفه إقامة الخلافة.
وأهم ما ميز شخصية الأستاذ «حسن البنا» تفرده سيداً للجماعة التي أنشأها مع آخرين. حتى إنه لم يتورع عن فصل المؤسس الأول معه «أحمد أفندي السكري» حين عارضه في بعض المواقف.
فلما أن كبرت الجماعة، وشعر «حسن البنا» أنها أصبحت إحدى أقوى ثلاث جماعات في مصر ـ بالإضافة إلى الملك وحزب الوفد ـ أعلن «حسن البنا» حربه على الوفد، مستعيناً بالملك. في سعي منه لأن تنقص القوى واحدة، فلا يبقى إلا حسن البنا والملك.
فلما أن شعر «حسن البنا» أن ذلك تمَّ له، أنشأ الجهاز السري، للسيطرة على الدولة.
فلما أصدر القضاء أحكاماً على بعض الإخوان ـ الذين نفذوا عمليات عنف وقتل في مصر ـ أصدر «حسن البنا» قراره الحديدي لرئيس الجهاز السري «عبد الرحمن السندي» بالتخلص من القاضي. وجعل أمره بعبارة مبهمة كي يستطيع التخلص من كل تبعة قانونية، إن جدّ في الأمور أمور.
فلما اعترف المتهمون بأنهم تلقوا الأمر منه، شنت الدولة حملة اعتقالات في صفوف الإخوان، فلم تدع منهم أحداً خارج المعتقل، وتركت سيد الجماعة وحيداً، بعد أن نزعت منه مسدسه الشخصي، واعتقلت حرسه الخاص.
الآن علم «حسن البنا» أنه مقتول لا محالة. لقد انقشعت الغمة بغياب الأنصار الذين طالما هتفوا له، وصار وحيداً دون حماية، والناس ينظرون إليه باعتباره زعيم العنف.
الآن فقط تذكر «حسن البنا» أن للملك جهازه السري الخاص كذلك، المسمى بالحرس الحديدي.
في تلك اللحظة من التاريخ تبرأ «حسن البنا» من كل أمر أصدره بالعنف، وتبرأ من المنفذين بإصدار بيانه المشهور: “ليسوا إخواناً وليسوا مسلمين”
وهذا البيان كان قوة إضافية في يد الدولة لمواجهة المنفذين لينقلبوا على سيدهم، ويسلموه بعد أن كانوا يهتفون له بالبيعة على الموت.
في تلك اللحظة المتأخرة علم المرحوم «حسن البنا» أنه أنشأ جماعة دفعته إلى تنفيذ ما أعلنه.
إن كل تجمع إنما يحمل في ذاته أدوات تسييره: فعلى سبيل المثال: إن اشتريت بندقية، فسرعان ما تطابك البندقية بالإطلاق. وإن بنيت قصراً طالبك القصر بسكناه. وإن انشأت جماعة تهدف إلى السيطرة فقويت، طالبتك الجماعة بالسيطرة.
ولا يصبح أمامك من بعد سوى طاعة القوة التي أطلقتها.
إن الدب الذي تدخله إلى كرمك ليحرسه، سرعان ما تكتشف أنه قد أكل كل عناقيد العنب.
حين قال المرحوم «حسن البنا»: “لو استقبلتُ مِنْ أمري ما استدبرتُ، لَعُدتُ بالجماعة إلى أيام «المأثورات»” فهو إنما كان يعبر عن حنينه إلى أيام أنْ كانت الجماعة صغيرة، لا تؤدي به إلى موته وفناء الجماعة. وهذا يشبه أن يتمنى الوالد رجوع ابنه العاق إلى مرحلة الطفولة، مع أنه هو الذي زرع فيه العقوق.
من كل ما سبق أقول:
لو علم البنا ان جماعته أقوى من الدولة لما قال ما قال.
والله أعلم.