مقال

قبسٌ من ضياء نافع

علي جبار عطية| كاتب عراقي
كنتُ من المحظوظين بلقاء أستاذ اللغة الروسية في جامعة بغداد الدكتور ضياء نافع ضحى يوم الأحد الموافق ٢٠٠٣/٩/٢٨ م ، في مكتبه بكلية اللغات/جامعة بغداد. غمرني قبسٌ من ضوئه أثناء وجودي في مكتبه الأنيق، وفي أثناء اللقاء دخل علينا أحد الشيوخ المعمّميّن ، فاستقبله نافع أحسن استقبال ، وسأله عن حاجته فقال الشيخ : لقد انّتخى بي ابن جاري ، وهو طالبٌ في قسم اللغة التركية ، وقد نجح إلى الصف الثاني لكنَّ هواه مع اللغة الإنكليزية ، وليس مع اللغة التركية ، ويرغب في الانتقال إلى قسم اللغة الإنكليزية.
طلب نافع شهادة الطالب وتفحصها ، ثمَّ علق : إنَّ درجاته لا تؤهّله للانتقال إلى قسمٍ أعلى ، فهي تتراوح بين درجة جيد، ودرجة متوسط.
قال الشيخ : لكنَّ درجته في درس اللغة الإنكليزية هي امتياز وهو يحب دراستها .
ردَّ نافع بالقول : إنَّ درجة الامتياز التي حصل عليها ، هي في درسٍ ثانوي ، وليس أساسيًا ، ثمَّ أردف : ومع ذلك ، و( لخاطر جية الشيخ) ، سأحاول نقل الطالب إلى قسم اللغة الفارسية ، أو قسم اللغة الروسية، مضيفًا : إنَّ التوجه السائد هو أنَّ اللغة الإنكليزية هي المهمة فقط ، وهذا غير صحيح، فاللغات التسع التي تدرسها كلية اللغات كلها مهمة.
خرج الشيخ من المكتب مقتنعًا بكلام الدكتور ضياء نافع، وبقيتُ معه، منتظرًا إشارة بدء الحوار معه. قال لي : إمهلني دقائق لأنتهي من تصريحٍ أدلي به إلى مندوب (إذاعة العراق)، وهي إذاعة جديدة، تابعتُ تصريحه الذي قال فيه بصفته عميد كلية اللغات : إنَّ الكلية بصدد الاتفاق مع الجهات ذات العلاقة على إقامة سفراتٍ لطلابها إلى البلدان التي يدرسون لغاتها ، مضيفًا : كما أنَّ الكلية قررت إطلاق اسم أستاذة اللغة الفرنسية الدكتورة الشهيدة عقيلة الهاشمي ( ١٩٥٣ م ـ ٢٠٠٣ م) على إحدى قاعات الدرس.
بعد أن خرج مندوب إذاعة العراق ، التفت نافع إليَّ ، وقال : أنا حاضرٌ لأسئلتك.
كنتُ أعرض السؤال، فتأتي الإجابة متدفقةً سهلةً من دون تكلفّ ، فأُدونها على الورق. وبعد نحو ساعةٍ ، خرجتُ بحصيلةٍ جيدة.
كان المخلصون من أبناء البلد يحاولون ترميم الخراب وإعادة بناء الإنسان، بعد سنوات من الدمار، وكان ضياء نافع أحد هؤلاء البناة المتفائلين فهو يرى أنَّ الحرية تؤدي إلى نمو الإبداع في كل مجال..
قال لي : خذ الأشهر الستة الماضية في العراق ، فبرغم وجود أزمات كهرباءٍ ، وماءٍ، وفقدان أمنٍ ، لكن كم من العراقيين المبدعين قد ظهروا، وكم قصائد جميلة ، ودراسات جادة قد ظهرت .
كانت أسئلة في جعبتي شغل بعضها بالي من بينها سؤال وجهته إليه..
قلتُ له : شاعت مقولةٌ ، من المظنون أنَّ قائلها ديستوفسكي تقول: (كلنا خرجنا من معطف غوغول ).. فلماذا لا يوجد أدباءٌ عرب خرجوا من معطف ، كمعطف غوغول ؟
قال : لسببٍ بسيطٍ ؛ هو أننا لا يوجد عندنا غوغول ! فضلًا عن أنَّ طقسنا ليس باردًا بالدرجة التي تجعل من الضروري ارتداء المعطف !
ولو أردتَ الجد ، فإنّ هذه المقولة هي أصلاً لا تعود إلى ديستوفسكي !
قلتُ له : اتهم أحد نقادنا قبل سنوات ديستوفسكي بميله للتطويل في السرد .. فبرأيك ، لماذا يميل الكتاب الروس للتطويل في السرد؟
قال : عندما كتب سولجينيتسن روايته
( الطاحونة الحمراء) بنحو ستةِ آلاف صفحةٍ ظهر هناك من ينتقده لطول الرواية فكان جوابه : ( أنا لا أكتب لهؤلاء المضطجعين على البلاجّ ، ويقرأون الروايات ، إنَّما أكتب لتاريخ بلادي ؛ لكي لا تتكرر الأخطاء) ، و ديستوفسكي فيلسوفٌ، وقد كتب فلسفته في أدبٍ ، وقد سئل الكاتب (رسول حمزاتوف) عن تعريفه للأدب الروسي فقال : إنَّه ثلاثة نتاجات هي :
(الجريمة، والعقاب): وتمثل الصراع الأبدي بين العدل ، والظلم ، و( الآباء، والبنون): وتمثل الصراع الأبدي بين الأجيال ، و(الحرب ، والسلم): وتمثل الصراع الأبدي بين الأمم ، هذا هو الأدب الروسي.
قلتُ له : هل كان للاتحاد السوفيتي السابق، دورٌ في ازدهار الأدب الروسي ، أو أنَّ دوره كان معيقًا ؟
قال: هذا سؤالٌ ذو حدين ؛ فالاتحاد السوفيتي دولةٌ عظمى استطاعت ـ كما هو حال النظم السياسية ـ أن توظّف الدولة، ومواردها لنشر الثقافة التي تريدها ، ومن ثمَّ فقد تحقق في الاتحاد السوفيتي ، ما تمكن تسميته ، بشبّه مجانية المعرفة، والثقافة، وقد انتشر الأدب الروسي بفضل هذه الآلة الضخمة للدولة السوفيتية . مثال على ذلك الكتب العربية التي طبعت في الإتحاد السوفيتي عن طريق دار (التقدم)، أو دار (رادوغا) فقد كانت في مستوىً راقٍ جدًا من حيث الإخراج ، وكان العاملون في تلك الدور، هم من كبار أدباء العربية مثل : الكاتب العراقي الكبير غائب طعمة فرمان ، والمترجم المصري الكبير أبو بكر يوسف ، وكانت أسعار الكتب شبّه مجانية، واستطاعت فعلًا أن تقدم أساسياتٍ ، ويشعر القارئ العربي الآن ، أنَّ فقدان مثل هذه المطبوعات السوفيتية ، يُعد خسارةً كبيرةً له ، ولكنْ هناك جانبٌ آخر في هذا الموضوع ، هو أنَّ هذه المطبوعات ، وبشكلٌ عامٍ ، مطبوعات الدول ذات الحزب الواحد ، هي مطبوعاتٌ تتحدد في آيديولوجية تلك النظم ليس غير ، أي أنَّها لا تؤمن بالتعددية الفكرية، وأظن أنَّ عنصر التعددية الفكرية ، هو عنصرٌ ضروريٌّ جدًا للتعمق في الثقافة ، والمثقف العراقي المعاصر الآن يشعر بذلك ، ويتفهم الفرق الهائل ، بين مايتمتع به من قراءاتٍ متنوعةٍ ، وما كان يرى كيف أن النظام السابق ينشر بسخاء مؤلفاتٍ تمجّده ليس غير. ولهذا السبب فإنَّ القارئ العربي عموماً لا يعرف الجوانب الأخرى من الأدب الروسي ، تلك الجوانب التي كانت ممنوعةً، ضمن تعليمات الدولة السوفيتية ذات الحزب الواحد، وقد دُهشت أنا شخصيًا ، عند اطلاعي على هذا الجانب الآخر من الأدب الروسي ، في أثناء دراستي لهذا الأدب في جامعة باريس في فرنسا ، إذ إنّي وجدتُ هناك آلافًا من الكتب، والمصادر الخاصة بالأدب الروسي ، والممنوعة في الاتحاد السوفيتي ، وعلى ذلك أستطيع أن أقول : إنَّ الاتحاد السوفيتي كدولةٍ عظمى ساعدت على نشر الأدب الروسي عالميًا، ولكنَّها في الوقت نفسه أعاقت القارىء من التعرف على كل جوانب الأدب الروسي، وشموليته.
بعد ذلك اللقاء التقيت الصديق المترجم الدكتور عبد الهادي فنجان الساعدي، وكان محور لقائنا الدكتور ضياء نافع،وعلاقته بزميلته الدكتورة حياة شرارة
( ١٩٣٥م ـ ١٩٩٧ م) أستاذة اللغة الروسية التي أصدرت أكثر من اثني عشر كتابًا في الأدب الروسي، ولأبرز كتابه أمثال بوشكين وليرمنتوف وغوغول وتورجينيف وتولوستوي ومايكوفسكي وبلوك ويسنين، والناقد بلنسكي، فضلًا عن كتاب عن الشاعرة نازك الملائكة، ورواية طبعتها أختها بلقيس شرارة بعد وفاتها عنوانها (إذا الأيام أُغسقت) تتناول حياة الأساتذة الجامعيين وإذلالهم زمن الطاغية، فاجأني الدكتور عبد الهادي فنجان الساعدي بالقول : إنَّ الدكتور ضياء نافع أخبره أنَّه أحد شخصيات رواية (إذا الأيام أُغسقت) ! كانت هذه الإشارة دليلًا على أصالة حياة شرارة، وأنَّها كتبت شطرًا من سيرتها الجامعية في هذه الرواية.
وبرغم هجرته لبلده وتبوئه لمنصب مدير مركز الدراسات العراقية الروسية (٢٠٠٦ ـ ٢٠١٢) في جامعة فارونيش الروسية إلا أنَّ انشداده إلى العراق بقي قويًا ، فقد تبنى فكرة إنجاز أربعة تماثيل لشخصيات عراقية شهيرة هم:غائب طعمة فرمان، وعزيز علي، والعلامة الأب أنستاس الكرملي، وملا عبود الكرخي، و تكفل بمصاريفها كما كان الدور الرئيس في وضع تمثال للشاعر الجواهري في الركن العراقي من مبنى جامعة فارونيش الروسية عام ٢٠٠٩ كما دعا إلى إقامة تمثال للشاعر ألكسندر بوشكين في جامعة بغداد، على أن يكون في كليّة اللغات، وفي قسم اللغة الروسية، وقد أخذت بهذا الاقتراح الجمعية العراقية لخريجي الجامعات السوفيتية والروسية ونفذته سنة ٢٠١١.
هذه بعض المواقف للدكتور ضياء نافع الذي ينشر الضوء أينما حل، وتبقى آثاره الأدبية شاهدةً حيةً على أصالته وعمق تجربته.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى