مسقط.. عيناكِ
بقلم: سيلينا السعيد
عند موانئ بحر عُمان، يلوح طيف السلطان قابوس، يلوّح له مبتسماً،”أمّنتك على شعبي” يتردّد الصدى و الطيف يتوارى، يتوارى رُويداً رويداً خلف ذلك الخيط الفاصل بين زرقة البحر ولهيب الشمس.عيناه بلونِ السنديان الشامخ، يشعّ منهما بريقُ العزيمة و الإصرار، يخطو بخطى ثابتة،نحو مشرق الشمس، تولى الحكم في ١١ يناير، سلّم على شعبه بكفين تعبقان بالمسك والعنبر، مسؤولية تُشعلُ الرأس شيباً، و عينان لم تفقد بريقهما لا تحت الشمس و لا في الظل.
السلطان هيثم بن طارق، ما بين ١١ أكتوبر و ١١ يناير، ألف حكاية، وألف شمسٍ ساطعة. كالبحيرة التي تعكس السماء، سار على نهج السلطان قابوس، و صوته يتوّرد في مقلتيه.. “أمّنتك على شعبي”.. موانئ الخليج تشهد على القسم، و الراعي الذي يجوب في الريف الأندلسي لا ينفك باحثاً عن الكنز كما السلطان هيثم لا يتوانى عن المسير نحو خيط الشمس. وكما قال جلال الدين الرومي منذ مئات السنين “إرفع مستوى كلماتك، ولاترفع صوتك، فالمطر الذي يُنبتُ الورود و ليس الرعد” هذا نهج السلطان هيثم ومن قبله السلطان قابوس، و نهج المدرسة السعيدية التي ترعرع بين ثناياها و غرّد مع عصافيرها.
رياح بحر عُمان تعصف بأفكاره، عينانِ ساهرتان، وبالٍ مشغولٍ، فؤادٍ متوقدٍ بنارِ الحكمة، والحكمة في قلبه تلتهب، يحملُ الشمعة بين راحتيه، من أطفأ الشمعة؟ من أضاء الشمعة؟
وحدهُ السلطان يعرف سر الإجابة.
عيناه تلاحقان ذلك الطيف، في عمقِ عينيه، لونٌ بلونِ القهوة العمانيّة، يتوارى الطيف في حلكة الليل، و يتحد مع لمعانِ النجوم.. أراه في المدرسة السعيدية، يركض بين أروقتها، يقفز قفزة مرحة، يتدحرج على عتبات أبوابها، يتمرغ فوق ترابها، مسرعاً نحو الميناء، ملوّحاً للباخرة الحربية الأميركية، متلذذاً بتذوق البسكويت و الآيس كريم التى تحملها السفن معها.
عيناه تبرقان مرحاً كما تبرق زرقة البحر الفيروزي تحت السماء..و عينا مدير مدرسته تلاحق الطفل المشاكس، “علي القاضي” الذي لم يعاقب الطفل في المدرسة بل أرسله إلى البيت، لأنه على بقينٍ بأن العقاب في البيت سيكون أشد أثراً و أعمق درساً، لأنه البيت الذي تشرّب منه السلطان أساسيات المجتمع العماني، يعكس أسمى قيّم المجتمع السليم و إحترام النسيج العماني بألوانه الزاهية و تنوّع أطيافه و طوائفه.
يكبر الفتى و نكبر معه، نطير معه على متن الطائرة المتجهة صوب العاصمة اللبنانية، يلتحق بالمدرسة الثانوية بين ربوع جبال لبنان، هبطت الطائرة، و هبط الفتى كما يهبط النورس على صفحة المياه، وها هو يتألق في دراسته في الثانوية في برمانا بين دفء حيطانها، و صوت وقع المطر والثلج على سطوحها.
وما بين شموخ جبال لبنان ودخان مواقدها، و عبق الورد و الزعتر ، تبرق عيني الفتى كما تبرق حبات الثلج الوردي، مؤمناً بأنّ ما زرع الله في قلبك رغبة في الوصول لأمرٍ معين، إلا لأنّه يعلم أنك ستصلُ إليه” فهل يجردّنا الشتاء من زهور الربيع ؟ و ها هي تمرّ السنين، و تطير بناالطائرة محلّقةً صوب العاصمة البريطانية، كي يستهل الشاب المتعطش للعلم مسيرته، و يتذوق من ينابيع المعرفة. يستقي من صفوفها الفن و الأدب و الفلسفة و الدبلوماسية
أبحر في شطآن الحكمة و زاده ذلك علماً على علم..ثمّة صوت لا يستخدم الكلمات، فأنصت.
أنصتَ و أنصتَ وسط زخاتِ المطر، و قسوة البرد، و لوعة الهجران، و لهيب الحنين إلى الوطن، سكنت جوانحه رغبة إحتضان موسم الورد، و عبق إشتعال البخور، و طعم الملوحة مع شاي الصيادين… و لأنّ الطريق التي يقطعها لا تقلّ أهمية عن الوجهة التي يسيرُ إليها. ثمة خيطّ برتقالي يفصل ما بين أمواج البحر و الشمس الذهبية عند الأفق .
مسقط، يا مسقط، عيناكِ وطني ما عاد للشتاء عنوان ، بحرك و جبالك و قلاعك عنواني
يخفق قلبه شوقاً، ويطير به صوب العاصمة العمانية التي لقط أول أنفاسه بين أزقتها، يسجد على تراب الوطن، نشوة الدفء الحنون، مسحت كف الشمس بحنيّة على جبينه، أتى الربيع، فرش البساط الأخضر، تفتّح الورد العماني.
آمن شعبك بك، لإنك لست قطرة في المحيط بل المحيط كله في قطرة..حنّ قلبه إلى موسم قطف الورد في الجبل الأخضر، إلى صهيل الخيول ، إلى زرقة الموانئ، إلى عبق الخبز العماني، و رائحة القهوة تعانق حبات الهيل و التمر، و دعوات شعبٍ كريم تعطرُ أنفاس صباحه.
عاد الفتى إلى ربوع الوطن، مكرساً جهوده في خدمة شعبه، و تراثه، و هويته، و السمو عالياً نحو الأفق اللا متناهي .
نراه في حصن الشموخ، بين أبناء بلده، يدنو من الشعب، يصافح الكبير و الصغير، يداه تعبقان بعبير المسك و اللبان العماني. و عيونٌ حوله تقدح فخراً و إعتزازاً به.
و قلبه يردد، “استمع إلى أنين الناي، كيف يبث آلام الحنين، يقول منذ قطعت من الغاب ، و أنا أحنّ إلى أصلي””و عقله يتجاوب ” لربما أنك باحثٌ في الأغصان عمّا لا يظهر إلا في الجذور “
شعبك يُبارك لك اليوم، ويشدّ على يدك، و يغرس معك غرسة خضراء في كنف الوطن الحنون ، العيون تدمع فرحاً و العصافير تزقزق طرباً، و القلوب تنبض لك في يومك مرددةّ سلمت يداك
و نظرات السلطان قابوس تشهد لك، و تعتز بك
بخطى ثابتة، وجبهة شامخة، وذراعين مفتوحتين، تسير مع أشعة الفجر الأولى ، نحو مشرق الشمس، كالسفينة التي تنسجم مع تلاطم الامواج، تحمل على كتفيك مسؤولية وطن وشعب، وأنت أيها القائد الذي عاهدت السلطان قابوس و قبلت الأمانة و السماء تشهد ولمعان النجوم يشهد لك ، لا تتوانى عن المضي قُدُماً في مشوارك.
من يقرأ بين السطور ، وبين صمت السطور، يستشف عقيدة ” ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً”
لامست كفوفك الأرض و عانقت جبهتك السماء، ولاء شعبك لك ، ولاء التراب العماني لأشجار النخيل ، جذورٌ عميقة في الأرض ، و أغصان وارفة تتراقص صوب السماء. و طيف السلطان قابوس يلوّحُ لك عند الأفق البرتقالي.
و في الختام مسيرتك… فوّاحة كما العطر كريمة كما المطر