حوار الشعر والنقد في ديوان “قبضة من أثر المجاز” للشاعرة الأردنية جمانة الطراونة
خديجة السعيدي
يراهن ديوان “قبضة من أثر المجاز” للشاعرة الأردنية المحامية جمانة الطراونة، على الدمج بين التقليد والتجديد، ذلك ان اعتماد الشكل العمودي والبحور الخليلية ، لا يعدو أن يكون إطارا شعريا يضمن التدفق الإيقاعي للقصائد التي تختزن في أعماقها رؤى جديدة وصورا مبتكرة تحقق للشعر خاصيته الانزياحية التي اعتبرتها الشعريات الحديثة جوهر الشعر ومعيار تمييزه عن النثر. ولعل أبرز خطاب تجديدي في الديوان، هو ذلك الحوار الشعري/ النقدي، الذي بدا طاغيا في الديوان. وإذا كان ربط الإبداع الذي يروم تأسيس خطاب نقدي مواز ينقد ذاته ويكشف هويته، عادة ما تم ربطه بالخطاب الروائي، وتحديدا بروايات ما بعد الحداثة ، فإن ديوان الشاعرة الأردنية (جمانة الطراونة) “قبضة من اثر المجاز”، يخرق هذه القاعدة، مؤسسا لخطاب شعري جديد، ينتقل من الشعر إلى ما وراء الشعر ، حيث تستبطن الشاعرة جمانة الطراونة تجربتها الشعرية، مجلية أدواتها ووظائفها، من لحظة الإنتاج إلى التلقي، وهو ما بدا واضحا في الديوان، الذي عكس نوعا من التناغم بين التنظير والإبداع، بين الناقدة والشاعرة التي تتحاور مع تجربتها الشعرية في القصيدة ذاتها.
1 – عتبات الديوان وأفق التأويل
اعتبر جيرار جنيتGerard Genette عتبات النص Les Seuils ، المشتملة على العناوين وصورة الغلاف، والمقدمة والإهداء والموجهات النصية والخاتمة….إلخ بمثابة نص مواز(Para Texte) ، يوجه القراء لفهم النص الأصلي وتأويله. هكذا ينفتح الديوان على أفق النقد منذ العنوان: “قبضة من أثر المجاز”، وهو عنوان ينبني على استعارة اعتبار المجاز شيئا ملموسا (يمكن القبض عليه)، مجليا رغبة الشاعرة منذ البداية في امتلاك أدواتها الشعرية المرموز إليها بـ (المجاز)، على الرغم من صعوبة ذلك، ما دام المجاز بطبيعته منفلتا، وكل ما يمكن القبض عليه هو (أثره). وقد جلت صورة غلاف الديوان هذه الاستعارة حيث تظهر كف إنسان قابضة على شيء يتلألأ، بين حروف مبعثرة (هي كلمات العنوان) بمثابة لؤلؤة نفيسة يمكن اعتبارها ذلك المجاز الذي يشكل جوهر الشعر وقوامه.
وقد تضافرت باقي العتبات للتعبير عن هذا الوعي النقدي (ما وراء شعري)، القائم على تأكيد صعوبة وضع معيار للشعر، حيث توجه الشاعرة القارئ، منذ الصفحة الأولى إلى خصوصية الشعر المنفلت عن مقولة الصدق والكذب (الصواب والخطأ)، واضعة نوعا من التعارض بين (رؤية العين)، و(قول اللسان)، إذ ليس الخبر كالعيان، ولا يمكن مطابقة القول (الشعر)، بالحقيقة التي تُرى رؤية العين:
ومبصرةٌ قيلَ: عينُ الصوابِ
فقلتُ: طويلٌ لسانُ الخطأْ (ص 2).
ولا شك أن الشاعرة هنا ترمز إلى الخاصية التخييلية للشعر التي عبر عنها حازم القرطاجني بقوله: ” الاعتبار في الشعر إنما هو التخييل في أي مادة اتفق، ولا يشترط في ذلك صدق ولا كذب، بل أيهما ائتلفت الأقاويل المخيلة منه فبالعرض لأن صنعة الشاعر هي جودة التأليف وحسن المحاكاة؛ وموضوعها الألفاظ وما تدل عليه” . ويؤكد هذا التمهيد الثاني الذي أثبته الشاعرة في الصفحة الثالثة من الديون، حيث تنيط بالشعر تلك الوظيفة الخلاقة باعتباره خلاصا للإنسان (الشاعرة والمتلقي معا)، وهو شعر وسمته بالجدة رغم شكله القديم:
بشيءٍ مِنَ الشِّعرِ أنجوْ
وأجتازُ فخَّ القصيدةْ
ولستُ الوحيدةْ
ولكنّني
غيرُ كلِّ اللواتى
نصبنَ المعاني
أمامَ المكيدةْ
فأجملُ ما فيَّ
أنّي برغمِ قديمي
جديدةْ. (ص 3).
وتجلي الشاعرة هذه الوظيفة، في المدخل الشعري الذي اعتبرت فيه القصيدة “باب السلام” ونجاة من “الواقع المستفز” (ص 7). وتأبى أخيرا، إلا أن تجعل أبيات ظهر غلاف الديوان معبرة عن رؤيتها للشعر ووظيفته، باعتباره تعبيرا عن الحزن والألم:
هنا حقيقةُ نزفي فالمدادُ دمُ
وما القصيدةُ إلّا الحزنُ والألم.
2- تجليات الخطاب النقدي في الديوان
يهيمن هاجس النقد على ديوان الشاعرة جمانة الطروانة، بشكل يجعلها الناقدة الأولى لشعرها، وهي تبرر ذلك بأنها تريد أن تجد لها مسلكا خاصا وطريقة متفردة في الشعر، مترددة بين مسلك الوضوح ومسلك الغموض (التورية)، وبين اللفظ البديع (بمفهومه البلاغي) والمعاني.. لتبقى الشاعرة حائرة تعود في كل مرة إلى نقطة البدء لمساءلة شعرها، وحل ألغازه، والقبض في أثر المجاز على طريقتها الشعرية :
فشلتْ محاولتي لخلقِ طريقةٍ
تُفضي لفصْلِ البحرِ عنْ شُطآني
وأنا أورّي فالحقيقةُ لم تعدْ
تَكفيْ لأبلُغَ ذروةَ الإيمانِ…
كان الرهانُ على البديعِ يُثيرُني
حتّى خسرتُ معَ الجناسِ رهاني
فرجعتُ مِنْ أثرِ المجازِ بقبضةٍ
ألقتْ بكفي في جحيمِ لساني
والمعبدُ الشعريُّ فوقَ رجالهِ
يهوي فمنْ يبكي على الرهبانِ ؟!
سأعودُ أدراجي لأوّلِ نقطةٍ
شعريّةٍ وأحلُّ لغزَ بياني ! (ص 72-74)
لا غرابة بعد هذا أن يبسط الخطاب النقدي نفوذه وأن تقدم الشاعرة في شعرها تثورها النقدي للشعر من الإنتاج إلى التلقي.
2 – 1 – التخيُّل الشعري
شغل رصد تشكل المعاني الشعرية في المخيلة أولى القضايا النقدية التي شغلت الشاعرة ، حيث حددت دوافع الإبداع فيما يعتمل في نفس الشاعر من مشاعر الحزن والألم والشوق… إلخ:
لا شِعرَ إلّا في دموعِ مُفارقٍ
وحنينِ مشتاقٍ ودعوةِ مُوجعِ
في الصمتِ ما يكفي لنفهمَ بعضَنا
لكنّنا نجري وراءَ المَسمع (ص : 22)
وتصل هذه الحوافز العاطفية إلى قمتها عندما يعاني الشاعر من الانفصام الوجداني، إزاء عالمه المفارق، حيث يلتبس البكاء بالضحك، وتتصارع الاضداد: الشك واليقين والحقيقة والوهم…إلخ:
إنّ الشّعرَ ما لا تُدْرِكُ
تبكي ولكنْ في الحقيقةِ
تضحكُ !
ضدّانِ
لا تدري بمَنْ ستردُّهُ ؟!
وبمَنْ تلوذُ
تحيا انفصامَكَ فيهِ
كلَّ قصيدةٍ
فتعودُ للإيمانِ لحظةَ تُشرِكُ (ص 9-11)
ويبدو أن هذا التناقض هو نتيجة حتمية لطبيعة الشعر، الذي قد يعني الشيء وقد يعني وضده عندما يُعرض للقراءة والتأويل، وكأن الشاعرة تجلي طريقتها” مسلكها الشعري، أو المنزع الشعري بتعبير حازم القرطاجني، حيث” يعني المنزع… كيفية مأخذ الشاعر في بنية نظمه وصيغه وعباراته وما يتخذه أبدا كالقانون في ذلك” .
وهكذا صرحت الشاعرة بأن القانون الذي اختارته والمنزع الشعري الذي نزعت إليه نفسها هو منزع الالتباس وتفضيله على الوضوح، مؤثرة التأويل المتعدد لدى المتلقي على الانحصار في قيد المعنى الواحد، ولا تتردد الشاعرة في إيثار التيه في ظلمات التأويل الحالكة على أنوار فجر المعاني الواضحة، بل إن بلاغة الصمت أولى من بلاغة الكلام الواضح:
متناقضٌ جداً
فبينكَ و”الأنا” حربٌ
كالفجرِ إلّا أنّ صمتَكَ أبركُ
كالليلِ إلّا أنّ بوحَكَ أحلكُ
كالـ ..؛ واخْتنقتُ
فكلُّ تشبيهٍ لهُ
حَرمٌ يحاولُهُ الكلامُ ومنسكُ
وجهانِ للمعنى وأنتَ كلاهُما
كالفجرِ إلّا أنّ صمتَكَ أبركُ
كالليلِ إلّا أنّ بوحَكَ أحلكُ
كالـ ..؛ واخْتنقتُ
فكلُّ تشبيهٍ لهُ
حَرمٌ يحاولُهُ الكلامُ ومنسكُ
وجهانِ للمعنى وأنتَ كلاهُما
فالشّعرُ -يا شيخَ الطريقةِ- مَسْلكُ (ص 10-12).
هذا الحرص على الخاصية الانزياحية للشعر، وإيثار غموضه على وضوحه، يأتي نتيجة خاصية أخرى تسم المسلك الشعري للشاعرة، والذي بينته في إحدى قصائدها بأنها من أنصار الصنعة والتروي في الشعر، مصرحة بميلها لمدرسة عبيد الشعر التي أسسها زهير بن ابي سلمى وأتباعه، حيث لا مجال للارتجال، ولا للشعر الفطير الذي لم يختمر في مخيلة الشاعر، ولم يراجع مراجعة دقيقة قبل عرضه على الناس وجعله في متناول المتلقين:
لأنّ القصيدةَ بنتُ التّروّي
معَ الشِّعرِ لا يُستحبُّ الحماسُ
أُذهّبُ نصّي لحدِّ الحواشي
فلا يصدأُ النّصُ لولا النّحاسُ! (ص 16).
وتشرح الشاعرة في موضع آخر هذه الطريقة الشعرية التي انتهجتها بإحالتها على شخصية الأصمعي ونهجها نهجه في تدقيق اللغة ومراجعتها والحرص على تجويدها واختيار ما يلائم لقصيدتها:
الشعرُ يعرفُ سجدةَ المعنى معي
ولديَّ – ما بالغتُ – إرث الأصمعي
وكأنّ أبيات القصائدِ كلِّها
جُمِعتْ لتُسكبَ بعدها في مطلعي( ص 17).
2 – 2 – التشكيل الشعري/ شعرية التناص
كثيرة هي المواضع التي وقفت فيها الشاعرة عند عناصر التشكيل الشعري، وأولها ذلك المجاز الذي جاء عنوان الديوان، والعناصر البلاغية الأخرى من تشبيه وبديع وجناس…
ولعل أبرز مقوم شعري وقفت عنده الشاعرة هو التناص، الذي يعني خلق حوار مع نصوص أخرى واستلهامها في سياقات جديدة . وقد خصت له الشاعرة قصيدة تجلي مقوماته ومصادره، قبل أن تجسده تطبيقيا في سائر الديوان، ففي قصيدة بعنوان: “غفوةٌ على سريرِ القصيدة”، تقوم الشاعرة شعرها بحسب التناصات التي يخلقها مع باقي الشعراء، مستعملة المصطلح الحديث “التناص” مجاورا للمصطلح البلاغي القديم “الاقتباس”:
بوحدة قلبي يكون القياسُ
فإمّا ” تناصٌ ” وإمّا ” اقتباسُ” (ص 12).
ومن هنا فالشعر في حقيقته – حسب الشاعرة – هو نتيجة قدرة الشاعر على استحضار تجارب من سبقه من الشعراء وصهر أشعارهم في أشعاره، وقد أفصحت الشاعرة عن بعض الشعراء الذين يشكلون فسيفساء نصوصها، وحصرتهم في أبي العتاهية وأبي نواس والخنساء، محيلة بهذا على ما تحمله تجارب هؤلاء الشعراء من تصوف ونسك(أبو العتاهية)، وجدة وتمرد على القديم (أبو نواس)، وشجن وحسرة (الخنساء):
عتاهيّةٌ كلُّ أبياتِ شعري
وما دار في بالِ بوحي ” نواس…
تخلّيتُ عن خطبتي من “دريدٍ “
فتى الأثنتينِ لأنّي “خُناسُ”” (ص 13-14).
هذا التنظير الذي اتخذ شكلا شعريا يوازيه ذلك التطبيق الذي دعمت به الشاعرة نظريتها حيث وجدناها تتناص في شعرها مع مريم العذراء وتتوحد في شخصيتها:
أنا أختُ “مريمَ” في كلّ شيءٍ
وحقّي إذا قلتُ أنْ لا مَساسُ( ص 15).
وذلك بقدر انفصالها عن شخصية (ولادة)، لأنها تتميز عنها بالتحدي والصمود ورفض الخضوع:
(ولّادةٌ) خضعتْ وذلكَ شأنُها
أمّا (جمانةُ) بالهوى لم تخضعِ (ص 19).