الرجل القوي والدولة القوية
محمد عبد العظيم العجمي
تمر ركائب التاريخ مستعرضة رموزها أمام ناظرينا، فنلمح من بينها الضعيف العاجز، والقوي الفاجر، والقوي الأمين، والأمين الضعيف، وكثيرا من نماذج من مروا على بلاط الحكم فلا يكاد يبين فيمن سطروا الصفحات بقوة إلا رجال معدودون، رغم هذا العدد الزاخم من سنوات التاريخ.. فكثير منهم مروا حين دفعت بهم المقادير إلى سدة الحكم فقضوا في ساعاتها أو أيامها أوسنيها ما قضوا فلم يخلفوا ما نذكرهم به إلا أن يقال: هؤلاء مروا من هنا.
لكن تبقى القلة الذين أوقفوا عجلة التاريخ عنوة واسترهبوا ناظريه، واستمالوهم إعجابا أو سخطا أو اقتداء أو ازدراء.. لكن لا يحط ذلك من قدر ما خلفت آثارهم، وما أثمرت غراسهم، وما آتت أكلهم إذ أثروا حقبتهم بما جعل التاريخ ومدونوه وكتابه يقف لهم بالإجلال، ويسجل لهم وعليهم بالمرصاد، ويقول: هؤلاء مروا وتلك آثارهم.
وقد توافي المقادير الحاكم القوي بالدولة القوية فلا يلبث أن يضطلع كل منهما بمقومات الآخر وملهماته ونفثاته الروحية والمادية، حتى يجلي كل منهما أجمل وجهٍ لصاحبه؛ فهذه مصر قد مر على خزائنها المئات أو الألوف، فأيهم كان لها يوسف حين سماها (خزائن الأرض)، وأيهم كان لها عمرا حين أرسل القوافل للمدينة إلى عمر أولها في المدينة وآخرها عنده، وأيهم كان صلاح الدين أو بيبرس أو قطر أوقلاوون؟!!!
بل في التاريخ الحديث أيهم كان (محمد على ) ــ رغم تحفظنا على كثير مما فعل ــ الذي وصل بها أبواب الخلافة وطمح أن يرث بها إرث آل عثمان لولا تصدر البغاة والطغاة له حقدا على الإسلام وداره..
وفي التاريخ نرى نابليون هذا الدعي الذي أطلق وساوس أوربا وهواجسها، وأقض مضاجعها حتى جعل من فرنسا نفوذا امبراطوريا في غرب أوربا وشرقها، وقبله الاسكندر، وبعده تشرشل وروميل ومونتجمري؛ وهذا ماوتسي تونج حين باتت الصين في غياهب التاريخ ردحا من الدهر حتى جاء فأدخلها حقب الامبراطوريات وابتعثها قوة صناعية عسكرية اقتصادية من جديد..
ثم نأتي على (بوتين ).. فقد قدم على دولة متهاوية بعد أن ظلت قطبا عالميا ثانيا أكثر من خمسين عاما، فجاءها جورباتشوف حليف الغرب حتى فككها وقطعها دولا وشيعا، ثم جاء من بعده العجوز يلتسين قد ألقى بنفسه في أحضان الغرب وأسلم قياده لهم وأعلن تبعيته .. فإذا بهذا المارد ينلفت من هذا الوهن بهذه النفس المتطلعة القوية الثابتة لينفض التبعية ويعلن الاستقلالية ويعيد بقوته إلى هذه الدولة نفاستها وعزمها، وينفخ في هذا الضعف من نفسه القوية حتىى كأنه يعيد إليها الحياة .
ويعيد توازن القوى العالمية ، ويعيد تقسيم الولاءات في العالم فيضع بلاده في مصاف الدول المخطوب ودها والمستجدى رضاها، والتي تخشى قوتها.. تكاد أوربا لا تبيت ولا تصحو إلا على حدث منه أو أمر جلل.. فأي شيطان هذا الذي سلط عليهم ليخزي أمريكا وأوربا ويردهم على أعقابهم.. ولسان حاله يقول:
أثرت هزبر الشرى إذ ربض .. ونبهته إذ هدا فاغتمض .. أو كما يقول:
إذا رأيت نيوب الليث بارزة فلا تظنن أن الليث بيبتسم
أما لسان حالهم معه فكما قال ابن زيدون أيضا: كمن يمسك الليث من أذنيه، لا يبالي أمسكه أم أفلته..
ربما يصنع الرجل القوي الدولة القوية حين تواتيه المقادير بما ييرز طبيعته وروحه القوية، وربما يحييها من ضعف، ويمدها من مداده، حتى كأنه ينفث فيها روح الحياة من العدم؛ وربما تقف المقادير في صورة الظرف التاريخي لقوته بالمرصاد فتحول بينه وبين ما يستطيع وما يملك من مقوماته النفسية والروحية .. كان مروان بن محمد أو (مروان الحمار) كما يلقبونه من أقوى خلفاء الدولة الأموية، وقد لقب بذلك لجلده وصبره وقوته؛ لكنه حين وافته المقادير كانت على غير وفاق مع ما أعطي، وكان الدعوة العباسية قد أقبلت جحافلها من خراسان إلى الشام حتى هُزم الرجل وولى شطر مصر فتتبعوه حتى قتل، وكان على مثاله من القوة والشجاعة والحكمة، وكان ديّنا : السلطان عبدالحميد الثاني ــ رحمه الله ـــ آخر سلاطين آل عثمان الذي رفض كل ما عرض اليهود للتنازل عن فلسطين، ومنع هجرة اليهود إليها، وحال بينهم وبين إنشاء الجامعة العبرية (اليهودية)، ورفض أن تملأ خزائن الخلافة ذهبا في حين كانت الخلافة كما يسمونها (الرجل المريض) مفلسة مستدينة، بل وأعلن لأن تقطع يمينه خير من أن تخط صك التنازل عن فلسطين، وتقتطعها من جسد الخلافة.
الرجل القوي في تصوري هو هذا الذي يمتلك أولا تلك المواهب القدرية النفسية فيفيض منها على من حوله، ويوظف مقومات الدولة القوية التي يحكمها على حسب رؤاه حين يثمر أحدها في كنف الآخر، هذا الذي لا يتماهى مع الوضع العالمي من حوله، ويسيل مع التيارات أينما سالت، ويتخبط ذات اليمنين وذات الشمال يحالف القوة حتى يأخذ من قوتها، ويوالي من الأنظمة القوية كل جديد يلقي بين يديه ولاءه.
إنما هذا الذي يستقل بنفسه وبلده مهما كانت قسوة الأنظمة القوية من حوله ، لا يصادم إن رأى من حاله ضعفا، ولا يهادن إن رأى من نفسه قوة، وهو على ثقة دوما بما في يديه مهما كان بسيطا، لا يسفه عطاءه، ولا يستقل بنفسه، ولا يكون تابعا ببلاده لغيره، إنما هي الثقة التي تلقي في روع القوي فلا يضع نفسه إلا في عداد الكبار، ولا يطأطأ هامته إلا أمام خالقه، فيه عزة النفس وثقة الإيمان..
ولا يقنع بصغائر الأمور، ولا يطمح إلا إلى المعالي ، ولا يحالف إلا القوي ندا ومثلا.. فهل نجد لهذا مثلا في عالمنا العربي من بعد سقوط الخلاقة .. لا أظن ، ولا أظنه يكون!!
إن الدول لا تكبر أبدا من الخارج ولكن من الداخل، ولا تكون عظيمة بالولاءات للكبار ولكن تظل تابعة حقيرة، ولا تكبر الدول ولا تعظم إلا بما تمتلكه من مقومات التاريخ والحغرافيا والحضارة والثقة.. الدول ذات التاريخ تقاتل لتعيد تارخيها أو لتدفع عنه كما فعل (بوتين)، ولا تضحي بما تملك أو شيئا من حتى تستمر.. فالموت والانتهاء أشرف لها من أن تعيش بلا تاريخ.
وكما قال(برناردشو): الرجل المعقول يوفق بين نفسه وبين العالم، والرجل غير المعقول يوفق بين العالم ونفسه.. لذا كان التغيير دوما في الحياة منوط بهؤلاء الأناس اللامعقولين”.
وهاهو بوتين (الرجل اللامعقول)، قد أتى بقوى العالم أمامه صاغرين يريدون أن يوفقوا بينهم وبينه، فهل لنا برجل غير معقول يعيد نفخة الحياة في هذه الأمة المسجّاة، وينهي عصر ملوك الطوائف؟!!