كن سمحا

رحاب يوسف | أديبة وتربوية فلسطينية

لوحة زيتية من مصر لمستشرق أوروبي

نحن كلنا مسافرون، والرسول – صلى الله عليه وسلم – يقول: “كن في الدنيا كأنك عابر سبيل“، لن تستطيع أن تكسب محبة الناس بقوتك، أو بعلو منصبك، أو بجمالك، أو بمالك، إنما بحُسن أخلاقك وتعاملك، يقول الرسول: “أنكم لن تسعوا الناس بأموالكم”.

كن سمحا في تعاملك مع الناس، فلا تتصيد الأخطاء لغيرك، دخل الرسول – صلى الله عليه وسلم – ذات صباح إلى عائشة، وقال: عندكم طعام؟ فقالت: لا، قال: إني إذن صائم. وفي يوم الفتح دخل على أم هالة، فقال: عندكم طعام؟ وكان يبدو في وجهه الجوع، قالت: عندنا، فأحضرت خبزاً يابسا، فقال: هل عدنكم إدام؟ فقالت: ما عندنا إلا الخل، فقال: هاتوا، وأخذ يضع الخبز في الخل، ويقول نعم الإدام الخل.

كان الرسول – صلى الله عليه وسلم –  جالسا مع أصحابه، وأقبلت امرأة ومعها قطيفة قماش صنعتها للنبي، قالت له: هذه صنعتها لك، فأخذها، وكان محتاجا لها، دخل بها إلى البيت، ولبسها، وخرج، فقال أحد الصحابة: هبنيها، فدخل الرسول مباشرة إلى بيته، وخلعها، ثم أعطاها للصحابي الذي طلبها.

كان الرسول – صلى الله عليه وسلم – لطيفا في التعامل، لا يقف لكل أحد قائلا: لمَ فعلت كذا؟ والذي يدقّق في الأمور لا يعيش سعيدا.

كن سمحا مع مَن لا يحسن التصرّف معك، كأنْ يتجاوزك في طريق، أو طابور، أو مشفى، أو تجمع مزدحم، تنازل لتجد الأجر من الله، ولا تشدد وتضيّق على الأهل، والجيران، والأصدقاء، والزملاء في العمل “ادفع بالتي هي أحسن”(فصلت34)، كل الكوارث بدأت بهبّة بسيطة “ثم انتهت بالقتل، الشديد البطل مَن يملك نفسه عند الغضب، والجزاء من جنس العمل، ما تصنعه في الدنيا تجده في الآخرة.

بعض الناس إذا رآك سمحاً لطيفاً يتجرأ عليك، فينظر إليك النظرة الدونية؛ لذا لا بد أن يكون سمحُك ولطفُك في موضعه ومكانه.

يقول الشاعر :

إذا قيل حِلمٌ قلت للحِلم موضعٌ

وحِلم الفتى في غير موضعه جهلُ

في سمحك ولطفك لا تبدي تذللا وذلا، والأناة واللطف في غير موضعهما جهالة، ومن أمِنَ العقوبة أساءَ الأدب، فإن كنت تعلم تلطفك في غير موضعه يجلب لك النظرة الدونية، فشدّ فالشّدة لها موضع معين،ويبقى الرفق واللطف هما الأصل.

كن سمحا لطيفاً في ردودك،كان الامام الشافعي – من أعظم أئمة الإسلام – بكل هذا الفقه، والعلم، والتمكن، تجد فيه مرحاً، وصاحب مُلَح؛ لنرى توازن الإسلام العجيب في شخصيته، فقد سمع حديثاً يرويه أبو العالي الرياحي عن القهقهة في الوضوء، فقال الشافعي: حديث الرياحي رياح (كناية عن ضعفه)، وفي يوم مرض الشافعي سأله الربيع بن سليمان وكان خادمه وتلميذه: كيف تجدكَ؟ فقال له: ضعيفاً يا ربيع، فقال الربيع: قوّى الله ضعفك، فقال: إذا قوي ضعفي يقتلني!

كان الشافعي صاحب أدبٍ وشعرٍ عجيبين، ومن عجائبه كان يُفتي في الشعر، جاءه شاب برقعة – ورقة – وإذا فيها سؤال عن قضايا العشق، فنظر فيها الشافعي فتبسم، وكتب فيها شيئاً، ظن الجالسون أن الشاب سأل مسألة فقهية، فأحبّوا أن يستفيدوا، فلحقوه، وإذا بسؤال الشاب:

سل المفتيَ المكّيَّ هل في تزاورٍ

وضمة مُشتاق الفؤاد جُناحُ

فجاء جواب الشافعي شعرا:

أقولُ معاذَ الله أن يُذهِبَ التقى

تلاصُقُ أكبادٍ بهنّ جِراحُ 

فجاء الشاب مرة أخرى يسأل الشافعي:

سل المفتيَ المكّيَّ من آل هاشمٍ

إذا اشتد وجدٌ بامرئٍ كيف يصنعُ

فجاء جواب الشافعي:

يـداوي هـواه … ثم يكتُمُ حـبَّـهُ

ويصبر في كل الأمور ويخضع

ثم رجع الشاب وسأل:

فكيف يداوي والهوى قاتل الفتى

وفي كـل يـوم غَـصَّةٌ يـتـجـرعُ

فرد الشافعي:

فإن هو لم يصبر على ما أصابه

فليس له شيءٌ سوى الموت أنفع

فتجرأ أحدهم وقال: كيف تفتي بذلك للفتى؟

فقال: هذا شاب أعرف قصته، تزوج حديثا فهذه فتوى خاصة به.

هذا هو الإمام الشافعي الذي ملأ الأرض علماً، والذي تلقّى العلم على يد الإمام مالك، وتأهل للإمامة وهو شاب، كان وجهه من أجمل الوجوه، يقول المزني: ما رأيت أحداً أجمل منه! ونسمع يونس الصدفي يقول: ما رأيت أحدا أعقل من الشافعي! يقول: ناظرت الشافعي في مسألة، ثم افرقنا والتقينا، فأخذ بيدي، ثم قال: يا أبا موسى! ألا يستقيم أن نكون إخوانا، وإن لم نتفق في مسألة.

هل جربت أن تنام ليلة واحدة دون مشاحنات كراهية، وبغضاء، وحسد؟ هل جربت أن تصدر مرسوماً بالعفو العام عن المسلمين؟ هل جربت أن تعفّر قلبك المرة تلو المرة بالعفو؟

كن أنت البادئ والواصل، كُن من الواصلين إذا قطعك الأرحام، والأقارب، والجيران، ووصلتهم، مَن يحمل العداوات في صدره يحمل فرنا مشتعلاً يحرقه، لا اطمئنان ولا استقرار ولا راحة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى